الرفيق حسقيل قوجمان
احد المواضيع التي بحثها ستالين في كراسه الاخير كان موضوع حتمية او عدم حتمية الحروب العالمية. من المعروف ان اللينينية اعتبرت ان الحرب العالمية حتمية في عهد النظام الامبريالي. وقد بين لينين ذلك بوضوح في كتابه "الاستعمار اعلى مراحل الراسمالية". فالحرب العالمية ضرورة قصوى في السياسة الامبريالية تحتمها حقيقة انهاء اقتسام العالم بين الدول الامبريالية وتطور الدول الراسمالية تطورا غير متساو وحاجة الدول المتطورة الى اعادة تقسيم العالم لصالحها. وتحتمها محاولة الخروج من الازمات الاقتصادية والمالية المتكررة في النام الراسمالي. ولا يمكن تحقيق اعادة تقسيم العالم الا عن طريق الحروب العالمية. الحرب العالمية ظاهرة حتمية تحققت في الحربين العالميتين الاولى والثانية.
في الحقيقة توصل ستالين الى عدم حتمية الحرب العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وكان احد النصوص الواضحة الصريحة عن ذلك سنة ١٩٥١ حين سأله مراسل برافدا:
هل تعتبر حربا عالمية جديدة حتمية؟
فاجاب: "لا. على الاقل في الحال الحاضرلا يمكن اعتبارها حتمية. " وبعد شرح ضرورة وفائدة الحرب العالمية بالنسبة للدول الامبريالية اضاف: "السلم سيصان ويتعززاذا اخذت الشعوب قضية صيانة السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية" (من كراس بعنوان يوسف ستالين يجيب على اسئلة مراسل برافدا صادر باللغة الانجليزية في لندن سنة ١٩٥١)
بعد الحرب العالمية الثانية حصلت تغييرات على الاوضاع السياسية والاجتماعية في العالم. ظهر الاتحاد السوفييتي اقوى واشد مما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية التي كان اهم اهدافها القضاء عليه. الى جانب الاتحاد السوفييتي الاشتراكي ظهرت دول عديدة سائرة في طريق بناء المجتمعات الاشتراكية في اوروبا واسيا. ففي البلدان التي حررها الاتحاد السوفييتي من الاحتلال النازي بالاشتراك مع شعوب هذه البلدان في مقاومتها للاحتلال نشأت دول اوروبا الشرقية السائرة بقيادة الطبقة العاملة نحو بناء مجتمعاتها الاشتراكية بمساعدة الاتحاد السوفييتي. ونشأت دول في اسيا تسير في طريق بناء النظام الاشتراكي بعد نضالها المستميت ضد الاحتلال الياباني وضد الدول الامبريالية التي عادت الى احتلالها بعد انسحاب الجيوش اليابانية مثل الفيتنام والصين وكوريا الشمالية ونشأت ثورات متعددة في دول اسيوية اخرى مثل بورما والملايو وسيام وغيرها. وتعاظمت الثورات الوطنية في افريقيا واميركا الجنوبية. ونشأ نتيجة لكل هذه التحولات المعسكر الاشتراكي بجانب معسكر الدول الامبريالية.
ادت هذه التحولات في الانظمة السياسية في العالم الى تغير اوضاع ما قبل الحرب العالمية الثانية من حيث حتمية الحرب العالمية. توصل ستالين الى ان هذه الظروف ادت الى تغير موضوع حتمية الحرب العالمية. توصل الى ان الظروف الجديدة جعلت الحرب العالمية غير حتمية. كان توصله الى ذلك نقضا لنظرية لينين في حتمية الحرب العالمية في العصر الامبريالي ومخالفا لكل كتاباته هو حول هذا الموضوع قبل الحرب العالمية الثانية.
ان قول ستالين في الجواب المشار اليه اعلاه مشروط. فالسلم سيصان اذا اخذت الشعوب قضية السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية وهذا يعني ان السلم سيتزعزع والحرب العالمية تصبح حتمية اذا لم تأخذ الشعوب قضية السلام بايديها. وهذا الشرط يعني ان صيانة السلام العالمي امكانية توجد الى جانبها امكانية اخرى هي نشوء حتمية الحرب العالمية مجددا.
لم تكن نظرية عدم حتمية الحرب العالمية تعني ان النظام الامبريالي غير طبيعته ولم تعد الحرب العالمية ضرورة حتمية بالنسبة له من اجل اعادة تقسيم العالم ومن اجل التخلص من الازمات الاقتصادية. بل ان الامبريالية اصبحت اشد حاجة الى حرب عالمية تحقق لها اعادة الاستيلاء على الجزء الذي خرج عن سيطرتها واصبح معسكرا اشتراكيا. ولكن عدم حتمية الحرب العالمية تعني ان هناك معسكرا لا يريد الحرب وليست الحرب من طبيعته ولا يتطلب تقدمه وتطوره شن الحروب وليست له ازمات اقتصادية يبتغي حلها عن طريق الحرب. ان عدم حتمية الحرب العالمية تعني ان هذا المعسكر الاشتراكي يصبح من القوة بحيث ان المعسكر الامبريالي يعجز عن شن حرب عليه. هذا هو المعنى الحقيقي لعدم حتمية الحرب العالمية.
على اساس هذه الظروف الجديدة نشأت حركة السلام العالمية. فشعوب الدول الاشتراكية والسائرة في طريق بناء الاشتراكية تتمسك بالسلام حكومات وشعوبا. وشعوب العالم الامبريالي هي الاخرى تريد السلام ولا تريد الحرب ولذلك اندفعت بملايينها الى حركة السلام العالمي.
كانت حركة السلام حركة ضد الحرب ومن اجل السلام ولم تكن مرتبطة بطبقة او مرتبة اجتماعية معينة بل كانت حركة تخص كل انسان يكره الحرب ويحب السلام. ولذلك اصبحت اعظم حركة راي عام منظمة في تاريخ البشرية. حركة منظمة ذات منهاج وقيادة وحركة تجتذب اليها كل انسان يحب السلام مهما كانت اراؤه السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والقومية وايا كان انتماؤه الطبقي. وقد قدمت هذه الحركة ضد انتاج القنابل الذرية الى الامم المتحدة مذكرة من ٦٠٠ مليون توقيع.
هل كان لهذه الحركة اساس نظري؟ ان اساسها النظري هو نظرية ستالين في امكانية التعايش السلمي بين النظام الاشتراكي والنظام الامبريالي. ولكن هل يكفي هذا الاساس وتجمع الشعوب في حركة سلمية كهذه لمنع الدول الامبريالية من شن الحرب التي هي من طبيعتها وهي حتمية من اجل تحقيق مصالحها؟ الحرب العالمية تجري باشد الاسلحة تدميرا فهل تستطيع حركة سلمية ان تصد مثل هذه القوى؟
كانت لحركة السلام قوة عسكرية تسندها وليست مجرد حركة سلمية لا سند لها. كان السند العسكري الذي يساند حركة السلام المعسكر الاشتراكي بكل قواه وفي مقدمته الاتحاد السوفييتي. الاساس السياسي والعسكري هو قرار المعسكر الاشتراكي باعتبار اي عدوان على اية دولة من دول المعسكر الاشتراكي حربا على المعسكر كله. كان على كل دولة او مجموعة دول تريد شن حرب عالمية ان تأخذ هذا القرار بنظر الاعتبار لان اية حرب لا تصبح عالمية ما لم تهاجم المعسكر الاشتراكي. كان عليها ان تحسب الحساب لكونها لدى شن حرب على دولة اشتراكية كان عليها ان تجابه المعسكر كله قبل اقدامها على شن الحرب. وكانت هذه القوة الهائلة في ازدياد دائم نتيجة الثورات الوطنية المتعددة ونجاح المستعمرات واشباه المستعمرات في التغلب على المستعمرين وتحول هذه الدول الوطنية سندا لهذا المعسكر الهائل. يضاف الى ذلك محبو السلام في كافة اقطار الدول الامبريالية التي تريد الحرب ذاتها.
الاساس النظري لكل هذا هو نظرية ستالين في التعايش السلمي. نظرية التعايش السلمي تعني ان الظروف العالمية بعد الحرب العالمية الثانية خلقت امكانية ان يعيش النظام الاشتراكي رغم وجود النظام الامبريالي في تعايش سلمي، اي بدون ان يكون هناك خطر نشوء حرب عالمية جديدة تشنها الدول الامبريالية ضده. والتعايش السلمي هو امكانية تهدف حركة السلام العالمي الى تحقيقها وليست حقيقة قائمة. كلما توسعت حركة السلام العالمي اقترب العالم من تحقيق هذه الامكانية.
لم تكن حركة السلام العالمي حركة اشتراكية او حركة تهدف الى تغيير الانظمة السياسية القائمة. ان الحركات السياسية التي تهدف الى تغيير الانظمة السياسية في الدول الامبريالية او في المستعمرات واشباه المستعمرات تختلف عن حركة السلام العالمي وتختلف قواها وسياساتها وتحالفاتها واساليب نضالها عن حركة السلام العالمي. ولكن كل حركة ثورية كهذه تنتصر تصبح سندا سياسيا وعسكريا واعلاميا لحركة السلام العالمي.
ان هدف حركة السلام العالمي الاستراتيجي هو خلق ظروف عالمية لا تستطيع فيها اية دولة امبريالة او مجموعة دول امبريالية شن حرب عالمية اخرى. ان تحقيق هذا الهدف العظيم لا يعني تخلي الدول الامبريالية عن طبيعتها التي تشكل الحروب جزءا طبيعيا منها. ان تحقيق هذا الهدف لا يعني نزع سلاح هذه الدول الامبريالية. فالحرب هي من طبيعة الدول الامبريالية وتبقى من طبيعتها حتى اخر دولة امبريالية في العالم. قد تستطيع حركة السلام العالمي تحاشي او ابطال حرب محلية معينة بين الدول الامبريالية باسقاط حكومة حربية واستبدالها بحكومة تسلك طريقا اخر لفترة معينة. ولكن حركة السلام العالمي لا تهدف الى الغاء الحروب بل تهدف فقط الى جعل رغبة الدول الامبريالية في اشعال حرب عالمية جديدة غير قابلة للتحقيق.
في صيف ١٩٥٢ في سجن الكوت كانت لنا دورة ثقافية عنوانها التعايش السلمي. حين بينت ان الطبيعة الحربية للدول الامبريالية لا تتغير لدى تحقيق التعايش السلمي سألني احد الحضور قائلا ما معنى ان تقول ان الحرب العالمية تصبح غير ممكنة وتقول ايضا ان الطبيعة الحربية للدول الامبريالية لا تتغير، اليس في هذا تناقض؟ كان بين الحاضرين في الدورة جعفر ابو العيس، بطل العراق لوزنه في رفع الاثقال. وكان في الدورة روبين الذي حاول اثناء الحصار القاء حجر صغير ففصخ كتفه. فسألت هذا السائل ماذا يحدث لو ان روبين قرر معاركة جعفر؟ فاجاب تنكسر يده. فقلت له هذا هو التعايش السلمي. هو ان الدول الامبريالية تتمنى لو انها تستطيع ان تحارب المعسكر الاشتراكي وتحطمه في حرب عالمية جديدة، ولكنها عاجزة عن تحقيق ذلك بدون ان تعرض وجودها ذاته الى الزوال.
التعايش السلمي حسب نظرية ستالين هو امكانية توفرت للبشرية بعد الحرب العالمية الثانية بفضل وجود معسكر اشتراكي محب للسلام ولا تشكل الحروب احدى ضرورات سياسته وتطوره. انه امكانية كان على البشرية ان تناضل من اجل تحقيقها بمساندة هذا المعسكر الجبار والحركات التحررية في المستعمرات واشباه المستعمرات والحركات الثورية التي تحاول اسقاط النظام الامبريالي. انه امكانية ناضلت من اجلها حركة السلام العالمي نضالا فعالا منظما وسارت في طريقه خطوات واسعة عظيمة. ولكن البشرية لم تتوصل الى حالة التعايش السلمي وفقا لمفهومه في هذه النظرية.
لدى استيلاء الطغمة الخروشوفية التحريفية على الحزب والدولة في الاتحاد السوفييتي غيرت كل المفاهيم الثورية الى مفاهيم تحريفية ومن جملتها التعايش السلمي. اعتبر خروشوف نفسه الماركسي المبدع الذي اكتشف نظرية التعايش السلمي وحول مفهوم التعايش السلمي الى وجود السلام وعدم وجود الحرب. فبموجب هذا التعايش السلمي كان العالم بين الحربين العالميتين يعيش تعايشا سلميا اذ لم تكن هنالك حرب عالمية ساخنة بين الدول الامبريالية. وكان العالم يعيش تعايشا سلميا طوال الحرب الباردة التي نشأت قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية يوم القاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي. وحول الخروشوفيون حركة السلام العالمي من حركة تأخذ فيها الشعوب قضية السلام بايديها الى ملحق للمفاوضات حول نزع السلاح التي كان هدفها الحقيقي وما زال ستر حمى سباق التسلح في العالم حتى يومنا هذا. واعتبروا نهاية الحرب الفيتنامية مثلا برهانا على التعايش السلمي. رفعوا شعار عالم بدون سلاح حين كان العالم الامبريالي بمن فيه الاتحاد السوفييتي الخروشوفي غارقا في سباق هائل للتسلح تخلصا من تفاقم الازمات الاقتصادية والازمة العامة للنظام الراسمالي. ولا اريد ان اطيل على القارئ في بحث هذه الفترة بحثا مفصلا. وقد بحثتها في مقال طويل بعنوان "التعايش السلمي من ستالين الى خروشوف" قبل عقود وهو موجود في موقعي في الحوار المتمدن يستطيع القارئ الراغب قراءته.
ان تحويل الاتحاد السوفييتي من مجتمع اشتراكي سائر سيرا وطيدا نحو تحقيق المجتمع الشيوعي الى دولة راسمالية متسترة وراء هراء ماركسي ولينيني وماركسية خلاقة وبيريسترويكا وغلاسنوست هدفها الاستراتيجي اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي ادى الى الظروف العالمية التي يعيشها العالم اليوم في ظروف الحرب العالمية التي اعلنتها الامبريالية الاميركية منذ ٢٠٠١ وما زالت قائمة، حرب عالمية تختلف عن سابقاتها بكونها حربا بين اقوى دولة مسلحة عرفها التاريخ حتى الان وبين عدو لا دولة له، لا جيش له، لا هوية له، لاتعريف له، اسمه الارهاب.
ان هذا التحول الذي جرى في الاتحاد السوفييتي تحت قيادة الخروشوفيين يرينا عظم الكارثة التي قادوا شعوب العالم اليها وهول الجريمة التي اقترفوها بحق الانسانية جمعاء.
احد المواضيع التي بحثها ستالين في كراسه الاخير كان موضوع حتمية او عدم حتمية الحروب العالمية. من المعروف ان اللينينية اعتبرت ان الحرب العالمية حتمية في عهد النظام الامبريالي. وقد بين لينين ذلك بوضوح في كتابه "الاستعمار اعلى مراحل الراسمالية". فالحرب العالمية ضرورة قصوى في السياسة الامبريالية تحتمها حقيقة انهاء اقتسام العالم بين الدول الامبريالية وتطور الدول الراسمالية تطورا غير متساو وحاجة الدول المتطورة الى اعادة تقسيم العالم لصالحها. وتحتمها محاولة الخروج من الازمات الاقتصادية والمالية المتكررة في النام الراسمالي. ولا يمكن تحقيق اعادة تقسيم العالم الا عن طريق الحروب العالمية. الحرب العالمية ظاهرة حتمية تحققت في الحربين العالميتين الاولى والثانية.
في الحقيقة توصل ستالين الى عدم حتمية الحرب العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وكان احد النصوص الواضحة الصريحة عن ذلك سنة ١٩٥١ حين سأله مراسل برافدا:
هل تعتبر حربا عالمية جديدة حتمية؟
فاجاب: "لا. على الاقل في الحال الحاضرلا يمكن اعتبارها حتمية. " وبعد شرح ضرورة وفائدة الحرب العالمية بالنسبة للدول الامبريالية اضاف: "السلم سيصان ويتعززاذا اخذت الشعوب قضية صيانة السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية" (من كراس بعنوان يوسف ستالين يجيب على اسئلة مراسل برافدا صادر باللغة الانجليزية في لندن سنة ١٩٥١)
بعد الحرب العالمية الثانية حصلت تغييرات على الاوضاع السياسية والاجتماعية في العالم. ظهر الاتحاد السوفييتي اقوى واشد مما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية التي كان اهم اهدافها القضاء عليه. الى جانب الاتحاد السوفييتي الاشتراكي ظهرت دول عديدة سائرة في طريق بناء المجتمعات الاشتراكية في اوروبا واسيا. ففي البلدان التي حررها الاتحاد السوفييتي من الاحتلال النازي بالاشتراك مع شعوب هذه البلدان في مقاومتها للاحتلال نشأت دول اوروبا الشرقية السائرة بقيادة الطبقة العاملة نحو بناء مجتمعاتها الاشتراكية بمساعدة الاتحاد السوفييتي. ونشأت دول في اسيا تسير في طريق بناء النظام الاشتراكي بعد نضالها المستميت ضد الاحتلال الياباني وضد الدول الامبريالية التي عادت الى احتلالها بعد انسحاب الجيوش اليابانية مثل الفيتنام والصين وكوريا الشمالية ونشأت ثورات متعددة في دول اسيوية اخرى مثل بورما والملايو وسيام وغيرها. وتعاظمت الثورات الوطنية في افريقيا واميركا الجنوبية. ونشأ نتيجة لكل هذه التحولات المعسكر الاشتراكي بجانب معسكر الدول الامبريالية.
ادت هذه التحولات في الانظمة السياسية في العالم الى تغير اوضاع ما قبل الحرب العالمية الثانية من حيث حتمية الحرب العالمية. توصل ستالين الى ان هذه الظروف ادت الى تغير موضوع حتمية الحرب العالمية. توصل الى ان الظروف الجديدة جعلت الحرب العالمية غير حتمية. كان توصله الى ذلك نقضا لنظرية لينين في حتمية الحرب العالمية في العصر الامبريالي ومخالفا لكل كتاباته هو حول هذا الموضوع قبل الحرب العالمية الثانية.
ان قول ستالين في الجواب المشار اليه اعلاه مشروط. فالسلم سيصان اذا اخذت الشعوب قضية السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية وهذا يعني ان السلم سيتزعزع والحرب العالمية تصبح حتمية اذا لم تأخذ الشعوب قضية السلام بايديها. وهذا الشرط يعني ان صيانة السلام العالمي امكانية توجد الى جانبها امكانية اخرى هي نشوء حتمية الحرب العالمية مجددا.
لم تكن نظرية عدم حتمية الحرب العالمية تعني ان النظام الامبريالي غير طبيعته ولم تعد الحرب العالمية ضرورة حتمية بالنسبة له من اجل اعادة تقسيم العالم ومن اجل التخلص من الازمات الاقتصادية. بل ان الامبريالية اصبحت اشد حاجة الى حرب عالمية تحقق لها اعادة الاستيلاء على الجزء الذي خرج عن سيطرتها واصبح معسكرا اشتراكيا. ولكن عدم حتمية الحرب العالمية تعني ان هناك معسكرا لا يريد الحرب وليست الحرب من طبيعته ولا يتطلب تقدمه وتطوره شن الحروب وليست له ازمات اقتصادية يبتغي حلها عن طريق الحرب. ان عدم حتمية الحرب العالمية تعني ان هذا المعسكر الاشتراكي يصبح من القوة بحيث ان المعسكر الامبريالي يعجز عن شن حرب عليه. هذا هو المعنى الحقيقي لعدم حتمية الحرب العالمية.
على اساس هذه الظروف الجديدة نشأت حركة السلام العالمية. فشعوب الدول الاشتراكية والسائرة في طريق بناء الاشتراكية تتمسك بالسلام حكومات وشعوبا. وشعوب العالم الامبريالي هي الاخرى تريد السلام ولا تريد الحرب ولذلك اندفعت بملايينها الى حركة السلام العالمي.
كانت حركة السلام حركة ضد الحرب ومن اجل السلام ولم تكن مرتبطة بطبقة او مرتبة اجتماعية معينة بل كانت حركة تخص كل انسان يكره الحرب ويحب السلام. ولذلك اصبحت اعظم حركة راي عام منظمة في تاريخ البشرية. حركة منظمة ذات منهاج وقيادة وحركة تجتذب اليها كل انسان يحب السلام مهما كانت اراؤه السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والقومية وايا كان انتماؤه الطبقي. وقد قدمت هذه الحركة ضد انتاج القنابل الذرية الى الامم المتحدة مذكرة من ٦٠٠ مليون توقيع.
هل كان لهذه الحركة اساس نظري؟ ان اساسها النظري هو نظرية ستالين في امكانية التعايش السلمي بين النظام الاشتراكي والنظام الامبريالي. ولكن هل يكفي هذا الاساس وتجمع الشعوب في حركة سلمية كهذه لمنع الدول الامبريالية من شن الحرب التي هي من طبيعتها وهي حتمية من اجل تحقيق مصالحها؟ الحرب العالمية تجري باشد الاسلحة تدميرا فهل تستطيع حركة سلمية ان تصد مثل هذه القوى؟
كانت لحركة السلام قوة عسكرية تسندها وليست مجرد حركة سلمية لا سند لها. كان السند العسكري الذي يساند حركة السلام المعسكر الاشتراكي بكل قواه وفي مقدمته الاتحاد السوفييتي. الاساس السياسي والعسكري هو قرار المعسكر الاشتراكي باعتبار اي عدوان على اية دولة من دول المعسكر الاشتراكي حربا على المعسكر كله. كان على كل دولة او مجموعة دول تريد شن حرب عالمية ان تأخذ هذا القرار بنظر الاعتبار لان اية حرب لا تصبح عالمية ما لم تهاجم المعسكر الاشتراكي. كان عليها ان تحسب الحساب لكونها لدى شن حرب على دولة اشتراكية كان عليها ان تجابه المعسكر كله قبل اقدامها على شن الحرب. وكانت هذه القوة الهائلة في ازدياد دائم نتيجة الثورات الوطنية المتعددة ونجاح المستعمرات واشباه المستعمرات في التغلب على المستعمرين وتحول هذه الدول الوطنية سندا لهذا المعسكر الهائل. يضاف الى ذلك محبو السلام في كافة اقطار الدول الامبريالية التي تريد الحرب ذاتها.
الاساس النظري لكل هذا هو نظرية ستالين في التعايش السلمي. نظرية التعايش السلمي تعني ان الظروف العالمية بعد الحرب العالمية الثانية خلقت امكانية ان يعيش النظام الاشتراكي رغم وجود النظام الامبريالي في تعايش سلمي، اي بدون ان يكون هناك خطر نشوء حرب عالمية جديدة تشنها الدول الامبريالية ضده. والتعايش السلمي هو امكانية تهدف حركة السلام العالمي الى تحقيقها وليست حقيقة قائمة. كلما توسعت حركة السلام العالمي اقترب العالم من تحقيق هذه الامكانية.
لم تكن حركة السلام العالمي حركة اشتراكية او حركة تهدف الى تغيير الانظمة السياسية القائمة. ان الحركات السياسية التي تهدف الى تغيير الانظمة السياسية في الدول الامبريالية او في المستعمرات واشباه المستعمرات تختلف عن حركة السلام العالمي وتختلف قواها وسياساتها وتحالفاتها واساليب نضالها عن حركة السلام العالمي. ولكن كل حركة ثورية كهذه تنتصر تصبح سندا سياسيا وعسكريا واعلاميا لحركة السلام العالمي.
ان هدف حركة السلام العالمي الاستراتيجي هو خلق ظروف عالمية لا تستطيع فيها اية دولة امبريالة او مجموعة دول امبريالية شن حرب عالمية اخرى. ان تحقيق هذا الهدف العظيم لا يعني تخلي الدول الامبريالية عن طبيعتها التي تشكل الحروب جزءا طبيعيا منها. ان تحقيق هذا الهدف لا يعني نزع سلاح هذه الدول الامبريالية. فالحرب هي من طبيعة الدول الامبريالية وتبقى من طبيعتها حتى اخر دولة امبريالية في العالم. قد تستطيع حركة السلام العالمي تحاشي او ابطال حرب محلية معينة بين الدول الامبريالية باسقاط حكومة حربية واستبدالها بحكومة تسلك طريقا اخر لفترة معينة. ولكن حركة السلام العالمي لا تهدف الى الغاء الحروب بل تهدف فقط الى جعل رغبة الدول الامبريالية في اشعال حرب عالمية جديدة غير قابلة للتحقيق.
في صيف ١٩٥٢ في سجن الكوت كانت لنا دورة ثقافية عنوانها التعايش السلمي. حين بينت ان الطبيعة الحربية للدول الامبريالية لا تتغير لدى تحقيق التعايش السلمي سألني احد الحضور قائلا ما معنى ان تقول ان الحرب العالمية تصبح غير ممكنة وتقول ايضا ان الطبيعة الحربية للدول الامبريالية لا تتغير، اليس في هذا تناقض؟ كان بين الحاضرين في الدورة جعفر ابو العيس، بطل العراق لوزنه في رفع الاثقال. وكان في الدورة روبين الذي حاول اثناء الحصار القاء حجر صغير ففصخ كتفه. فسألت هذا السائل ماذا يحدث لو ان روبين قرر معاركة جعفر؟ فاجاب تنكسر يده. فقلت له هذا هو التعايش السلمي. هو ان الدول الامبريالية تتمنى لو انها تستطيع ان تحارب المعسكر الاشتراكي وتحطمه في حرب عالمية جديدة، ولكنها عاجزة عن تحقيق ذلك بدون ان تعرض وجودها ذاته الى الزوال.
التعايش السلمي حسب نظرية ستالين هو امكانية توفرت للبشرية بعد الحرب العالمية الثانية بفضل وجود معسكر اشتراكي محب للسلام ولا تشكل الحروب احدى ضرورات سياسته وتطوره. انه امكانية كان على البشرية ان تناضل من اجل تحقيقها بمساندة هذا المعسكر الجبار والحركات التحررية في المستعمرات واشباه المستعمرات والحركات الثورية التي تحاول اسقاط النظام الامبريالي. انه امكانية ناضلت من اجلها حركة السلام العالمي نضالا فعالا منظما وسارت في طريقه خطوات واسعة عظيمة. ولكن البشرية لم تتوصل الى حالة التعايش السلمي وفقا لمفهومه في هذه النظرية.
لدى استيلاء الطغمة الخروشوفية التحريفية على الحزب والدولة في الاتحاد السوفييتي غيرت كل المفاهيم الثورية الى مفاهيم تحريفية ومن جملتها التعايش السلمي. اعتبر خروشوف نفسه الماركسي المبدع الذي اكتشف نظرية التعايش السلمي وحول مفهوم التعايش السلمي الى وجود السلام وعدم وجود الحرب. فبموجب هذا التعايش السلمي كان العالم بين الحربين العالميتين يعيش تعايشا سلميا اذ لم تكن هنالك حرب عالمية ساخنة بين الدول الامبريالية. وكان العالم يعيش تعايشا سلميا طوال الحرب الباردة التي نشأت قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية يوم القاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي. وحول الخروشوفيون حركة السلام العالمي من حركة تأخذ فيها الشعوب قضية السلام بايديها الى ملحق للمفاوضات حول نزع السلاح التي كان هدفها الحقيقي وما زال ستر حمى سباق التسلح في العالم حتى يومنا هذا. واعتبروا نهاية الحرب الفيتنامية مثلا برهانا على التعايش السلمي. رفعوا شعار عالم بدون سلاح حين كان العالم الامبريالي بمن فيه الاتحاد السوفييتي الخروشوفي غارقا في سباق هائل للتسلح تخلصا من تفاقم الازمات الاقتصادية والازمة العامة للنظام الراسمالي. ولا اريد ان اطيل على القارئ في بحث هذه الفترة بحثا مفصلا. وقد بحثتها في مقال طويل بعنوان "التعايش السلمي من ستالين الى خروشوف" قبل عقود وهو موجود في موقعي في الحوار المتمدن يستطيع القارئ الراغب قراءته.
ان تحويل الاتحاد السوفييتي من مجتمع اشتراكي سائر سيرا وطيدا نحو تحقيق المجتمع الشيوعي الى دولة راسمالية متسترة وراء هراء ماركسي ولينيني وماركسية خلاقة وبيريسترويكا وغلاسنوست هدفها الاستراتيجي اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي ادى الى الظروف العالمية التي يعيشها العالم اليوم في ظروف الحرب العالمية التي اعلنتها الامبريالية الاميركية منذ ٢٠٠١ وما زالت قائمة، حرب عالمية تختلف عن سابقاتها بكونها حربا بين اقوى دولة مسلحة عرفها التاريخ حتى الان وبين عدو لا دولة له، لا جيش له، لا هوية له، لاتعريف له، اسمه الارهاب.
ان هذا التحول الذي جرى في الاتحاد السوفييتي تحت قيادة الخروشوفيين يرينا عظم الكارثة التي قادوا شعوب العالم اليها وهول الجريمة التي اقترفوها بحق الانسانية جمعاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق