الرفيق حسقيل قوجمان
خارطة طريق الولايات المتحدة برؤية ماركسية
Y. Kojaman
The Road Map of
The United States of America
Copyright © Y. Kojaman
First published 14 July 2003
116 Hanover Road
London NW10 3DP
Tel/Fax: 020 8357 0690
www.kojaman.co.uk Website:
Printed in London
U.K.
المحتويات
الموضوع الصفحة
المحتويات ٥
خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية ٧
تمهيد ٩
الولايات المتحدة رائدة الديمقراطية في العالم ١٢
الديمقراطية برؤية ماركسية ١٥
الحرب العالمية الثالثة ٢١
ماهو الارهاب؟ ٢٢
الحرب كوسيلة للازدهار الاقتصادي ٢٦
حتمية الحرب العالمية في عصرنا ٣٠
طبيعة الحرب العالمية الثالثة ٣٢
خارطة طريق الولايات المتحدة في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني ٣٤
خارطة طريق الولايات المتحدة في العراق ٤٢
من هو الشعب العراقي؟ ٦٠
عراق تسيطر عليه الولايات المتحدة وبريطانيا ٦٤
فما هو مصير العراق بعد صدام والاستعمار؟ ٦٨
ما العمل اذن؟ ٧١
للمؤلف ٧٦
خارطة طريق الولايات المتحدة
برؤية ماركسية
في فترة الاعداد لغزو العراق ظهر في الميدان السياسي حول الحرب الفلسطينية الاسرائيلية ما سمي "خارطة الطريق". واشتد الحديث عن هذه الخارطة قبل وأثناء الغزو الاميركي البريطاني للعراق حيث ادعت الادارة الاميركية ورئيسها بوش بأن خارطة الطريق سيجري اعلانها وتسليمها وتحقيقها بصورة جدية بعد الانتهاء من احتلال العراق او ما سمي بحرب تحرير العراق. وفعلا ابرت الادارة الاميركية بوعدها فسلمت خارطة الطريق الى طرفي النزاع، الحكومة الاسرائيلية والحكومة الفلسطينية فور تحقيق المطلب الاميركي الاسرائيلي بخلق منصب رئيس وزراء للحكومة الفلسطينية وتعيين رئيس وزراء لها مع التأكيد على تأييد الولايات المتحدة وأسرائيل لاختيار محمود عباس (أبو مازن) لهذا المنصب المستحدث مع اصرار ابو مازن على تعيين محمد دحلان في الوزارة الجديدة.
الحقيقة ان خارطة الطريق هذه وخرائط طريق اخرى يجري اعلانها في اماكن مختلفة من العالم ليست سوى اجزاء صغيرة متفرقة من خارطة طريق كبرى اوسع وأشمل منها هي خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية. وهي خارطة طريق سلكتها وما زالت تسلكها وستواصل سلوكها كل ادارات الولايات المتحدة بدون استثناء منذ الحرب العالمية الثانية والى امد غير محدود وغير معروف النتائج. فخارطة طريق الولايات المتحدة هي موضوع هذا البحث وسيجري بحث خرائط الطريق الجزئية الاخرى في سياق البحث مع التأكيد على خارطة طريق الولايات المتحدة في العراق وخارطة طريق الولايات المتحدة في فلسطين باسهاب كمثالين على هذه الخرائط الاميركية.
ما سبب اصرار الادارة الاميركية على خارطة الطريق هذه وما الذي يجعل جميع رؤساء الولايات المتحدة ملتزمين بهذه الطريق؟ اليس بين هؤلاء الرؤساء من يحب السلام، يحب البشرية، يحب العدالة الانسانية؟ قد يكون رئيس الولايات المتحدة بصفته الشخصية كانسان يحب الانسانية ويحب السلام. ولكن رئيس الولايات المتحدة بصفته رئيس لها ليس انسانا مستقلا يتصرف بارادته وحسب رغباته. انه رئيس الولايات المتحدة وعليه ان يسلك الطريق التي تفرضها عليه مصالح الطبقة التي يمثلها، طبقة الراسماليين الاميركيين. انه انسان مسير لا مخير. والطبقة الراسمالية ذاتها مثل رئيسها ليست مخيرة بتصرفاتها بل مسيرة. فالراسمالي عبد لراسماله ويجب ان يخدم مصالح راسماله والا نبذه راسماله ومال الى عبد راسمالي اخر. والراسمالية تخضع لقوانين طبيعية تفرض نفسها وتفعل بصرف النظر عن ارادة الراسماليين ورغباتهم. والقانون الاساسي للراسمالية الاحتكارية هو اجتناء الحد الاقصى من الارباح. ولا يتحقيق هذا القانون الا بزيادة استغلال واستعباد شعوبها وشعوب العالم الاخرى. وكلما ازداد تطور الصناعات المدنية والعسكرية ازدادت الحاجة الى المزيد من اسواق المواد الخام اللازمة للصناعة واسواق توزيع البضائع المنتجة واسواق استغلال الراسمال المتراكم في ارجاء العالم لمضاعفة الارباح. وعلى رئيس الولايات المتحدة ايا كان ان يضمن للراسمالية الاميركية سلوك هذه الطريق طالما بقي رئيسا للولايات المتحدة. واذا فكر احدهم ولو لحظة واحدة في السير بخلاف هذه الطريق فان الراسمالية التي اختارته رئيسا لها تنبذه نبذ النواة وتزيحه لتأتي برئيس يضمن لها مصالحها. وهدف خارطة طريق الولايات المتحدة الحالي هو عولمة الراسمال الاميركي، اي سيطرة الراسمال الاميركي على اقتصاد العالم كله، لا فرق بين صديق وعدو، واستخدام كل الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك من حروب واحتلال واستعمار واستعباد وتدمير الدول الراسمالية المنافسة.
تمهيد
بدأت خارطة طريق الولايات المتحدة في الواقع اثناء الحرب العالمية الثانية. فمن المعروف ان الولايات المتحدة لم تدخلها الا اضطرارا بعد الهجوم الياباني المفاجئ على برل هاربر. ولكن الولايات المتحدة اصبحت منذ بدء الحرب المجهز الاوحد للاطراف المتحاربة بالاسلحة والمعدات والمواد الغذائية والملابس وكل شيء مما ادى الى ازدهار صناعتها في جميع الميادين الى مستويات هائلة. ولم تتوقف هذه العملية بعد دخول الولايات المتحدة طرفا في الحرب. اذ حتى بعد دخولها الحرب كان عدد ضحاياها في حوادث الطرق اكثر من ضحاياها في الحرب. وكانت الولايات المتحدة الاميركية الدولة المتحاربة الوحيدة التي لم تطلق على اراضيها خلال الحرب طلقة واحدة من طلقاتها. وقد ادى ذلك الى ان تصبح الدول المتحاربة غريقة قروض اميركية كان عليها ان تسددها بعد الحرب او ان تتنازل في مقابلها عن جزء كبير من مستعمراتها تسديدا لديونها. وكان من ضمن ذلك ارساء قواعد عسكرية وقوات عسكرية في البلدين الحليفين بريطانيا وفرنسا وفي بلدان المحور المانيا وايطاليا واليابان. وما زال هذا الاحتلال قائما الى يومنا هذا.
بدأ اعداد الولايات المتحدة للحرب العالمية الثالثة قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية باسقاط قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي. ومعروف للعالم اجمع اليوم ان القاء القنابل الذرية لم يكن لضرورات عسكرية نظرا الى ان الحرب كانت منتهية عسكريا. كما ان القنابل القيت على مدينتين مدنيتين لا اثر فيهما لاية اهداف عسكرية ولم يكن بين ضحاياها جندي واحد. كان الهدف من القاء القنبلتين ارهاب العالم بهذا السلاح الهائل الذي كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تحوز عليه واجبار الاصدقاء والاعداء على الخضوع لارادة هذه الدولة الجبارة خوفا من هذا السلاح.
انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الاتحاد السوفييتي والحلفاء على دول المحور الفاشستية. وقد ادى خروج الاتحاد السوفييتي منتصرا الى انسلاخ واسع النطاق من نفوذ العالم الامبريالي الاستعماري بظهور المعسكر الاشتراكي الذي يضم الديمقراطيات الشعبية في اوروبا الشرقية واسيا. وتعزز ذلك بانتصار الثورة الصينية وتحرير الصين من نظام جان كاي جك والولايات المتحدة الاميركية سنة ١٩٤٩.
في الجانب الثاني استطاعت الولايات المتحدة ان تخضع دول المحور والدول الامبريالية المنتصرة، بريطانيا وفرنسا، خضوعا عسكريا واقتصاديا وسياسيا تاما وسيطرت عليها اقتصاديا عن طريق مشروع مارشال.
كان من نتائج الحرب العالمية الثانية نشوء هيئة الامم المتحدة بديلا عن عصبة الامم التي انتهى امرها لدى اندلاع الحرب. ولكن هذه الهيئة الدولية كانت منذ البداية اداة خاضعة لنفوذ الولايات المتحدة الاميركية كما كانت مثيلتها عصبة الامم خاضعة لبريطانيا وفرنسا. فان مقر هذه الهيئة في نيويورك وكانت الولايات المتحدة وما زالت الممول الرئيسي لها، وكانت اغلب الدول المؤسسة للهيئة دولا خاضعة للنفوذ الاميركي. وفي مجلس الامن كانت ثلاث من الدول الكبرى الخمس التي تتمتع بحق الفيتو دولا خاضعة للنفوذ الاميركي، بريطانيا وفرنسا وصين جان كاي جك التي اصبحت تايوان بعد انتصار الثورة الصينية في ١٩٤٩. ولم يكن يحد من سيطرة الولايات المتحدة هذه سوى الاتحاد السوفييتي الذي كان يحبط بعض قرارات مجلس الامن باستخدام حق الفيتو.
وفي ١٩٤٧ بدأ وينستن تشرتشل، رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب، في خطاب القاه في الولايات المتحدة، دعوته الى فرض ستار حديدي حول الاتحاد السوفييتي والتهديد باستغلال القنابل الذرية، قبل حصول الاتحاد السوفييتي على مثل هذا السلاح، فكان ذلك بداية ما سمي بالحرب الباردة.
كان من اول مظاهر خارطة طريق الولايات المتحدة بعد الحرب، الحرب الاهلية في الصين التي وقفت الولايات المتحدة فيها الى جانب حكومة جان كاي جك وزودتها بالسلاح بغية القضاء على الجيش الشيوعي الصيني. ولكن جهودها منيت بالفشل وانتصر الجيش الشيوعي الصيني على جيوش جان كاي جك الذي فر الى جزيرة تايوان وكون حكومة اعتبرتها الولايات المتحدة الحكومة الشرعية للصين وابقت عضويتها في هيئة الامم المتحدة ومجلس الامن رغم انها لا تشكل الا نقطة في بحر الصين الحقيقية.
ثم جاءت الحرب الكورية حين ارادت الولايات المتحدة القضاء على الدولة الديمقراطية الشعبية التي نشأت في شمال كوريا والحاقها بجنوب كوريا التي تحتلها الولايات المتحدة الاميركية. الا ان الولايات المتحدة جابهت المعسكر الاشتراكي كله في حربها هذه. فالمعسكر الاشتراكي كان يعتبر اي هجوم على اي جزء من المعسكر هجوما على المعسكر الاشتراكي كله. ودخلت الصين بملايينها لمحاربة الولايات المتحدة الى جانب جيوش كوريا الشمالية مما احبط خطط الولايات المتحدة في القضاء على كوريا الشمالية. وكانت تجربة الحرب الكورية تجربة قاسية بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية اذ كان عليها بعدها ان تحسب الف حساب قبل مهاجمة اية دولة من دول المعسكر الاشتراكي. ومما يجدر ذكره ان الولايات المتحدة شنت حربها الكورية تحت علم الامم المتحدة اذ نجحت في اتخاذ قرار في مجلس الامن يخولها شن الحرب على كوريا الشمالية.
وواصلت حكومات الولايات المتحدة مسيرتها في خارطة الطريق فجاءت الحرب الفيتنامية وحروب اخرى متتالية في البوسنة والهرسك وكوسوفو وحرب الخليج وغيرها عدا الحروب والانقلابات واغتيالات الرؤساء المتمردين على سيطرة الولايات المتحدة مثل الانقلاب ضد سوكارنو في اندونيسيا وضد اللندي في شيلي وفي بلدان اخرى عديدة والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول المقاومة لسيطرتها مثل كوبا وغيرها. وكانت الولايات المتحدة تشن اكثر هذه الحروب وكأنها حروب الامم المتحدة.
الولايات المتحدة رائدة الديمقراطية في العالم
بما ان هذا البحث جاء نتيجة للحرب الاميركية البريطانية على العراق واحتلالها للعراق عسكريا اتناول موضوع الديمقراطية بالعلاقة بحرب الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق.
زعم بوش ونظيره بلير انهما يهاجمان العراق لنزع اسلحة الدمار الشامل ولاسقاط نظام صدام حسين وارساء نظام ديمقراطي في العراق يكون مثالا يحتذى في الشرق الاوسط وهو ما سماه كولن باول اعادة تنظيم خارطة الشرق الاوسط. ولكن بيلغر نقل عن باول تصريحا اقتبسه من "سيدني مورننع هيرالد" قال فيه "سيكون لاميركا وجود ومصالح دائمة في اسيا الوسطى ذات نوع لم يمكن ان نحلم به قبل الحادي عشر من سبتمبر". (بيلغر ص ١٠٨)
اية ديمقرطية يستطيع بوش ان يؤسس في العراق؟ وما هو مفهوم الديمقراطية لدى بوش؟ بالطبع ليس بامكان بوش ان يحقق ديمقراطية في العراق او في اي مكان اخر من العالم يختلف عن ديمقراطية بوش نفسها. علينا ان نعرج على ديمقراطية بوش او بلير او جميع الديمقراطيات الغربية المعروفة بما فيها روسيا التي جاءت نتيجة ادعاء قادة الاتحاد السوفييتي بعد وفاة ستالين انهم يقومون بالغاء الدكتاتورية وتحقيق الديمقراطية.
ان ما تتبجح به هذه الدول هو انها تمنح شعوب بلادها حريات واسعة, مثل حرية الصحافة وابداء الرأي، حرية التنظيم الحزبي والنقابي، حرية كل شخص بابداء رأيه حتى ولو كان ذلك ضد الملوك والرؤساء، حق كل انسان في التصويت في الانتخابات البرلمانية, حق التظاهر والاضراب الخ...
لنأخذ على سبيل المثال حرية الصحافة. ان حرية الصحافة متاحة قانونا لكل فرد في هذه البلدان الديمقراطية. وصحيح ان بعض الجماعات والافراد ينجحون في اصدار صحف معارضة وخصوصا صحف الاحزاب والنقابات المعارضة في هذه البلدان. ولكن حرية الصحافة متاحة ايضا لامثال مردخ الذي يسيطر على وسائل الاعلام بما فيها الصحف والمجلات ومحطات الاذاعة والتلفزيون وشركات السينما في هوليوود وحتى نوادي كرة القدم ليس في استراليا وحسب بل في بريطانيا والولايات المتحدة ايضا. فكيف يستطيع فرد او جماعة معارضة ان تتبارى مع مثل هؤلاء العمالقة في وسائل الاعلام؟ ثم هل حرية الصحافة حرية مطلقة في هذه البلدان؟ بالطبع لا. فالحكومات تستطيع بقوانينها ان تمنع الصحف عن الانتقادات التي تؤثر على مصالحها بواسطة الرقابة على الصحف وغلقها واعتقال محرريها وغير ذلك من الوسائل بحجة المحافظة على النظام. وكيف يستطيع العامل العاطل او الفلاح الفقير الجاهل او المشرد الذي لا يجد مكانا يلجأ اليه فينام في الشوارع ان يعبر عن رايه في هذه الصحافة الحرة؟ صحيح ان هؤلاء يتمتعون قانونا بنفس الحرية التي يتمتع بها مردخ من حرية للصحافة ولكن البون شاسع بين هذا وذاك.
ومن مظاهر الديمقراطية حق التظاهر. وهو حق معترف به في الديمقراطيات الغربية ولو ان هذا الحق مشروط في اغلب الاحيان بالحصول على موافقة السلطات على ممارسته. وقد شاهدنا مظاهرات الملايين في ارجاء العالم ضد الحرب على العراق قبل نشوبها. وفي لحظة كتابة هذه السطور نسمع عن مظاهرة كبيرة تجري ضد العولمة في ايفيان الفرنسية بمناسبة انعقاد مؤتمر رؤساء الدول الصناعية الثماني الكبرى. وقد رأينا كيف حمل المتظاهرون صور بوش مرفقة بالسواستيكا النازية وصورة بوش مع حبيبته بلير. فهل هناك اكثر من هذه الحرية؟ ولكن ما ان تتعرض المظاهرات لبعض المصالح الراسمالية بصورة جدية الا ويصبح قمعها متاحا قانونا وفي سبيل ذلك تستعمل كل وسائل القمع من الشرطة والجيش والاعتقالات والسجون واستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه وحتى اطلاق النار على المتظاهرين اذا تطلب الامر. ولدينا مثال على ذلك حدث عند اضراب عمال الفحم في بريطانيا سنة سنة ١٩٨٤.
والديمقراطية تكفل حق الاضراب للعمال للمطالبة بزيادة الاجور وتحسين ظروف عملهم. وفي تاريخ هذه البلدان العديد من الاضرابات الناجحة احيانا والفاشلة احيانا اخرى. وليس غريبا عن المتتبع في هذه البلدان المؤامرات التي تحاك من اجل تحطيم الاضرابات الواسعة النطاق وتجاهل الاضرابات وترك العمال يقاسون من استمرار اضراباتهم واستخدام عملاء لكسر الاضرابات وغير ذلك من وسائل تحطيم الاضرابات.
ومن الحقوق الديمقراطية التي نالها العمال في عصرنا حق البطالة. ففي العصور الاولى للراسمالية كانت القوانين تعاقب العامل العاطل او الهارب من المعمل لعدم تحمله ظروف العمل القاسية فيه بعقوبات تبلغ احيانا حكم الاعدام. ولكننا في عصرنا نشاهد عشرات الملايين من العاطلين في مختلف هذه البلدان وبصورة دائمة. بل ان العمال العاطلين يتمتعون حتى بحق التصدق عليهم من اموال الدولة لابقائهم على قيد الحياة. وحق البطالة مكفول لكل انسان في البلدان الديمقراطية ولا فرق في ان يقضي العاطل من اصحاب البلايين وقته بالمقامرة في البورصة نهارا والمقامرة على موائد القمار في مونت كارلو ليلا او ان يقضي العامل العاطل وقته في التفتيش في القمامة عن لقمة خبز تسد رمقه. فالانسان يتمتع بكامل حريته في الديمقراطية. ومن حق كل بريطاني ان ينام تحت الجسر كما قال احد كبار مفكري بريطانيا ولعله كان برنارد شو. فحين كان فقراء لندن ينامون تحت جسر تشارينغ كروس وتقوم منظمة الصليب الاحمر بتقديم الشاي لهم مجانا كل مساء بحيث تحول تحت الجسر الى موقع سياحي. فكما يزور السائح تغيير الحرس الملكي في قصر بكينغهام صباحا يزور تحت الجسر ليلا للتفرج على فقراء لندن الذين يفترشون قطع الكرتون ليناموا نوما هادئا تحت الجسر قد تكون نومتهم الاخيرة من شدة البرد احيانا. ومن حق كل اميركي ان يعيش في اكواخ الصفيح في ظل الديمقراطية. كل هذه الحريات الديمقراطية قائمة في الولايات المتحدة الاميركية وصنوها الديمقراطية التاريخية العتيدة بريطانيا وهما تستطيعان ان توفرا قسما منها في العراق ايضا.
ولكن هناك حق ديمقراطي اخر يندر ذكره لدى التحدث عن الديمقراطية. حق كل انسان اميركي او بريطاني او كل انسان في الدول الامبريالية في استغلال الطبقات الكادحة من الشعب في بلاده واستغلال شعوب العالم كله. هذا الحق الديمقراطي هو اهم الحقوق الديمقراطية في جميع هذه البلدان الديمقراطية. وفقا لهذا الحق يحق للدولة ان تعاقب كل من تخوله نفسه المساس بهذا الحق المقدس الذي يسمى عادة حق الملكية الخاصة. ولهذا الغرض تحتاج الدولة الى القوانين والجيش والشرطة والمحاكم والسجون ووسائل الاعلام بشتى اشكالها اضافة الى الاستخبارات والمؤامرات واسقاط الحكومات المعارضة واغتيال الرؤساء المنتخبين وغير ذلك. هنا دور الدولة الرئيسي، الدكتاتورية السافرة بابشع صورها، كما شاهدناه ونشاهده كل يوم في ارجاء العالم وفي الديمقراطيات الراسمالية ذاتها. فتحقيق الديمقراطية للطبقة الحاكمة في استغلال شعوبها وشعوب العالم جلبت سلسلة غير متناهية من الحروب والمجازر وابادة الشعوب منذ نشوء الدول الراسمالية وحتى يومنا هذا حيث نعيش الحرب العالمية الثالثة التي اعلنتها الولايات المتحدة على العالم كله يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١.
الديمقراطية برؤية ماركسية
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي اخذ الناس عموما يتحدثون عن فشل الماركسية وثبوت خطلها مستندين بذلك الى زوال اول دولة اشتراكية في التاريخ رغم ان هذه الدولة انجزت خلال ١٥ عاما من الناحية الاقتصادية والصناعية اكثر مما انجزته الراسمالية في اربعة قرون وبلغت من القوة والمتانة ما مكنها من تحطيم اكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ حينذاك، المانيا النازية، وانقاذ العالم من شرورها وعبوديتها.
والواقع ان هناك فرقا بين انهيار الدولة الاشتراكية وبين الماركسية. فالدولة الاشتراكية هي نظام حكم معرض للهجوم شأنه في ذلك شأن اي نظام حكم اخر وبالامكان تحطيمه واسقاطه بمثل هذا الهجوم سواء من الداخل ام من الخارج.
اما الماركسية فهي قوانين اجتماعية طبيعية كانت تفعل قبل اكتشافها وما زالت تفعل بعد اكتشافها رغما عن ارادة الانسان وبصرف النظر عن رغباته ومصالحه الخاصة. لذا فمن المستحيل تحطيم او الغاء او تغيير اتجاه هذه القوانين. وأكبر برهان على ذلك ان الراسمالية رغم تطورها الهائل في العلوم والتكنولوجيا والصناعة لم تستطع التغلب او القضاء على اي من هذه القوانين، لناخذ قانون الازمة الاقتصادية في النظام الراسمالي مثلا. راينا ان في كل ازمة اقتصادية منذ وقوع اول ازمة سنة ١٨٢٥ وحتى اليوم كانت ابواق الراسمالية من الاقتصاديين تدعي بانها تغلبت عليها ووجدت الحلول لاستمرار تطور الراسمالية وازدهارها الاقتصادي بدون الازمات. ولكن الازمات تكررت بصورة دورية وتطورت بحيث ان النظام الراسمالي دخل فيما يسمى الازمة العامة واختفت فترة الرواج التي كانت تنتهي بها كل ازمة واصبحت البطالة والكساد ظاهرتين مستمرتين في النظام الراسمالي. وقد رأينا ان الهدفين اللذين حددهما جورج بوش الابن للحرب العالمية التي اعلنها يوم ١١ سبتمبر فور الهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون هما اولا القضاء على الارهاب وتحقيق عالم بدون ارهاب وثانيا انقاذ الاقتصاد الاميركي من الركود . والركود او الكساد او غير ذلك مصطلحات يطلقها الاقتصاديون الامبرياليون لتجنب ذكر الازمات الاقتصادية.
فالماركسية اذن لم تتحطم ولم يثبت خطلها بانهيار الاتحاد السوفييتي. بل بالعكس كان انهيار الاتحاد السوفييتي ذاته برهانا على صدق الماركسية وفعل قوانينها. اذ ان انهيار الاتحاد السوفييتي لم يتحقق الا حين تخلى قادة هذه الدولة عن الماركسية وسلكوا سياسات اقتصادية وسياسية مناقضة لمتطلبات القوانين الاقتصادية الطبيعية التي تتحكم بتطور الاشتراكية في اتجاه المجتمع الشيوعي.
وما هي الديمقراطية بالمفهوم الماركسي؟ في المفهوم الماركسي تشكل الديمقراطية والدكتاتورية وحدة نقيضين لا ينفصل احدهما عن الاخر. فلا وجود للديمقراطية بدون الدكتاتورية ولا وجود للدكتاتورية بدون الديمقراطية. واذا زال احدهما زال الاخر ايضا.
لقد اكتشف كارل ماركس قانون التطور الاجتماعي الذي يدعى اليوم المادية التأريخية. ووجد ان الدولة منذ نشوء اول دولة في التاريخ البشري وحتى بقاء اخر دولة في هذا التاريخ هي وحدة نقيضين، الدكتاتورية والديمقراطية. وبين ان الصفة الاساسية للدولة هي الدكتاتورية لانها لا تستطيع تحقيق الديمقراطية لطبقتها الا بممارسة اشد انواع الدكتاتورية ضد الطبقات التي تستغلها. فدول العبيد كانت ديمقراطية لاسياد العبيد لم يمكن تحقيقها الا بممارسة اقسى انواع الدكتاتورية تجاه العبيد حين لم يكن ينظر اليهم كبشر. وما حروب الابادة ضد ثورات العبيد الا امثلة رائعة على ذلك. ولكن التاريخ سار حسب القوانين الطبيعية لتطور المجتمع رغم حروب الابادة ورغم ارادة الاسياد وتحقق النظام الاقطاعي.
ومارست النظم الاقطاعية اقسى انواع الدكتاتورية من اجل تحقيق الديمقراطية للطبقات الاقطاعية. ولكن التاريخ سار ايضا حسب القوانين الطبيعية للتطور الاجتماعي واندلعت الثورات البرجوازية ضد النظام الاقطاعي في اوروبا. كانت ابرز هذه الثورات الثورة الفرنسية الكبرى بعد ثورة كرومويل في بريطانيا والثورة الاميركية ضد الحكم البريطاني.
ومارست البرجوازية دكتاتوريتها من اجل تحقيق الديمقراطية للطبقة الراسمالية وبقايا الطبقات القديمة. ولكن قوانين التطور الاجتماعي سارت مسارها واندلعت اول ثورة بروليتارية في ثورة الكومونة في باريس فحطمتها البرجوازية الفرنيسة بالتعاون مع الجيوش الالمانية المحتلة. الى ان اندلعت ثورة اكتوبر في روسيا فنشأت اول دولة بروليتارية في التاريخ ودام حكمها حتى سنة ١٩٥٣. واذا انتصرت الراسمالية واستطاعت تحطيم الدولة الاشتراكية فهذا لا يعني ان الراسمالية قد انتصرت على القوانين الطبيعية لتطور المجتمع او غيرتها. فهذه القوانين تعمل رغم ارادة الانسان ولا يمكن تحطيمها او ازالتها او تغييرها شانها في ذلك شأن قانون الجاذبية مثلا.
واعتبر كارل ماركس وفريدريك انجلز ان الصفة الدكتاتورية للدولة هي الاساس وان الديمقراطية هي نتاج للدكتاتورية التي تمارسها الطبقات الحاكمة على انواعها بما فيها الدولة العمالية التي تطيح بالنظام الراسمالي وتحقق نظاما اشتراكيا. وادركا ان تسمية الدول الراسمالية بالديمقراطيات لا يعبر عن هذه الحقيقة التاريخية. لذا اطلقا على الدولة العمالية التي تنشأ بعد تحطيم الراسمالية دكتاتورية البروليتاريا وليس ديمقراطية البروليتاريا.
ولا يختلف الامر في دكتاتورية الطبقة العاملة عن سابقاتها دكتاتوريات اسياد العبيد والاقطاعيين والراسماليين من حيث كون الدولة هي في الاساس دكتاتورية الطبقة الحاكمة ضد الطبقة المحكومة بسوى ان الدكتاتوريات السابقة كلها كانت دكتاتوريات الاقلية ضد الاغلبية بينما تكون دكتاتورية البروليتاريا دكتاتورية الاكثرية ضد بقايا الطبقة المطاحة التي تحاول استغلال كل فرصة لاستعادة سيادتها ودكتاتوريتها السابقة. لذا قال لينين ان دكتاتورية البروليتاريا هي اكثر ديمقراطية من اكثر الدول الديمقراطية الراسمالية مليون مرة.
فالتحدث عن ديمقراطية الولايات المتحدة لا وجود له في الواقع الا للطبقة الراسمالية الحاكمة التي تمارس اقسى انواع الدكتاتورية للمحافظة على استغلال الشعب الاميركي وشعوب العالم والتحدث عن العراق الديمقراطي الذي تريد انشاءه لا يعني شيئا سوى منح الراسمال الاميركي حرية استغلال واستعباد الشعب العراقي ونهب ثرواته.
قد يقول البعض ان ماركس اخطأ في توقعه بان الراسمالية سائرة الى الزوال وان الاشتراكية نظام حتمي يجب ان يتحقق باسقاط النظم الراسمالية. واكبر دليل على ذلك استمرار النظام الراسمالي وتطوره الهائل صناعيا وعلميا وتكنولوجيا. ان قانون المادية الديالكتيكية، قانون الحركة الاساسي في الطبيعة والمجتمع، وهو القانون الاساسي الذي تستند اليه الماركسية، يفيد بان كل تناقض حين يبلغ مرحلة معينة من التطور تتحتم الطفرة التي تنقضه وتحول النقيض النامي الذي كان النقيض الضعيف المتطور الى النقيض الرئيسي المتحكم بالتناقض. وهذا يعني ان المجتمع الراسمالي المؤلف من نقيضين متصارعين، الراسمالية والطبقة العاملة، حين يبلغ درجة في تطوره يتحتم قيام ثورة النقيض النامي، البروليتاري، على نقيضه الراسمالي لتحقيق النظام الجديد، النظام الاشتراكي. وهذا ما حدث في ثورة اكتوبر. ولكن هذه الثورة لا تتحقق اذا لم تكن هناك الحركة القادرة على تحقيقها نظرا لوجود طبقات تتعارض مصالحها والمصالح التي ينبغي ان تتحقق بالثورة وهي طبقات تمتلك كل شيء من الثروة والسلطة والجيش والشرطة والاسلحة والمحاكم والسجون والقوانين ووسائل الاعلام. وقد بلغ النظام الراسمالي هذه المرحلة منذ امد بعيد ولكن القوة التي تستطيع الثورة على النظام الراسمالي على نطاق عالمي للتغلب على المقاومة المستميتة للنظام الراسمالي بجيوشه واسلحته الفتاكة لم تتحقق بعد. وهذا هو التفسير الوحيد لاستمرار النظام الراسمالي حتى يومنا هذا وتطوره صناعيا وتكنولوجيا.
ولكن قانون الديالكتيك يفيد ايضا بان عجز النقيض النامي المتطور عن تحقيق الثورة على نقيضه يؤدي الى فناء الضدين. وقد اورد انجلز مثال البيضة كاحد الامثلة البسيطة والواضحة على قانون فناء الضدين هذا. فقشرة البيضة تكون حامية نمو الجنين في داخلها الى ان يتطور الجنين الى مرحلة كسر القشرة والخروج منها. فاذا عجز الجنين عن تحطيم القشرة كان مصير البيضة والجنين هو الفناء. فلا القشرة تبقى بيضة لا الجنين يبقى جنينا. وهذا القانون هو القانون الفاعل في المجتمع الراسمالي منذ بلوغ تطوره الى مرحلة ضرورة الثورة وتحطيم النظام الراسمالي. وطبيعي ان فناء الضدين في هذه الحالة لا يعني فناء المجتمع الانساني كله مثلما ان فناء بيضة لا يعني فناء كل البيض في الطبيعة. ولكن فناء الضدين في المجتمعات الراسمالية يتحقق امام اعيننا باشكال عديدة كل يوم.
احد اشكال فناء الضدين واكثرها تكررا هو الازمات الاقتصادية. فالازمة الاقتصادية في النظام الراسمالي ظاهرة تدل من الناحية الديالكتيكية على ان التناقض بين الطبقة العاملة والراسمالية قد بلغ حدا يتطلب من الطبقة العاملة الثورة على البرجوازية وتاسيس دكتاتوريتها البروليتارية. الا ان البروليتاريا ليست من التنظيم والقوة قادرة على تحقيق ثورتها ولذا يتحتم فناء الضدين، وهو الازمة. ففي الازمة تعاني الطبقة الراسمالية من كساد في تصريف بضائعها لعدم قدرة الكادحين على استهلاكها فتغلق المعامل وتفسد السلع او تتلف او تحرق الحبوب او تلقى في البحر وغير ذلك. وفي الازمة تعاني الشركات من الصعوبات ما يؤدي الى سلسلة من الافلاسات الخ... وهذا فناء جزئي للراسمالية. وفي الازمة تظهر البطالة. والبطالة تعني من الناحية الاقتصادية فناء القوى العاملة. فان العامل يمتلك قوة عمله التي يستطيع بها ان ينتج للمجتمع وهو يعيد انتاج قوة عمله كل يوم. ولكن عدم امكانه الحصول على ادوات العمل التي يستطيع بها استهلاك قوة عمله لهذا اليوم معناه فناء قوته العاملة لذلك اليوم وحرمان المجتمع كله من انتاجه. كانت الازمات في بدايتها تتكرر كل عشر سنوات تقريبا ثم تليها فترة انتعاش تبلغ درجة الرواج والتطور السريع للانتاج الراسمالي. ولكن دخول الراسمالية في ظاهرة الازمة العامة الغى فترة الرواج من الدورة الاقتصادية للراسمالية واصبحت البطالة باعدادها الهائلة ظاهرة ثابتة لا تستطيع اية دولة راسمالية ان تبلغ فيها فترة رواج تنتفي فيها البطالة كليا. وهذا ما نشاهده في عصرنا حيث يحصى العاطلون بالملايين وتتبارى الحكومات الراسمالية بمحاولات خفض البطالة بوسائل شتى لاخفاء ظاهرة تفاقم البطالة المستمرة.
ومن ظواهر فناء الضدين الحروب. ففي الحرب يكثر استهلاك الاسلحة المدمرة ويكثر التدمير الذي يتطلب اعادة الاعمار وتكثر الضحايا من البشر لدى الاطراف المتحاربة مما يشكل فترة رخاء للراسماليين الذين ينتجون الاسلحة للحرب ويقومون باعمار ما دمرته الحرب بعد ذلك.
ومن ظواهر فناء الضدين تلوث البيئة. ونحن شهود في عصرنا لتشقق الغلاف الاوزوني للارض وزيادة ثاني اكسيد الكربون في الجو واثار ازالة الغابات للاغراض التجارية وزيادة المواد الاشعاعية في الجو وتاثيرات التجارب الذرية على القشرة الارضية وزيادة الهزات الارضية وثوران البراكين والعواصف والفيضانات المدمرة في بعض البلدان يقابلها جفاف مميت في بلدان اخرى من جراء ذلك وارتفاع درجة حرارة الارض بصورة مستمرة والاخطار المترتبة على ذلك الى اخر ذلك وما يرافقه من مجاعات وغيرها من الماسي التي تعاني منها البشرية كل يوم وفي ارجاء العالم.
الحرب العالمية الثالثة
كانت الولايات المتحدة في حالة حرب دائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الان. فقد دخلت حروبا كبرى مثل الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وحرب الخليج وغيرها. وكانت في حرب دائمة مع الاتحاد السوفييتي فيما سمي بالحرب الباردة. وكانت وراء حروب اخرى مثل الحرب الايرانية العراقية والحروب التي تجري في افريقيا واميركا اللاتينية وبعض بلدان الشرق الاقصى والحرب الاسرائيلية الفلسطينية. وقامت بانقلابات عسكرية في مختلف بلدان العالم. الا انها لم تعلن الحرب العالمية رسميا الا يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١. وهذه الحرب ليست صدفية وليست نتيجة حتمية لاحداث ١١ سبتمبر. فكل الدلائل والاخبار تشير الى ان الحروب التي جرت بعد اعلان هذه الحرب العالمية خطط لها وكانت مقررة قبل هذه الاحداث وما احداث ١١ سبتمبر الا الذريعة التي اتخذتها الولايات المتحدة لاعلان الحرب. فهذه الحرب هي نتيجة منطقية لخارطة طريق الولايات المتحدة التي سارت عليها جميع اداراتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
حدد الرئيس بوش هدفين لهذه الحرب العالمية التي يشنها. الهدف الاول هو الحرب ضد الارهاب. والارهاب حسب رأيه منتشر في العالم كله وهو يشكل خطرا على امن الولايات المتحدة والعالم اجمع. لذا يرى من مهمات الولايات المتحدة باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة في العالم ان تحارب الارهاب اينما وجد والقضاء عليه وتحقيق عالم بلا ارهاب، عالم سلام وامان لجميع شعوب العالم.
وحدد الرئيس بوش هدفا ثانيا لهذه الحرب هو انقاذ الاقتصاد الاميركي من الركود الذي يعاني منه وتحقيق الازدهار الاقتصادي للولايات المتحدة وللبلدان الصناعية الاخرى. وقد بشر شيراك هذه الدول وما يسمى الدول النامية في مؤتمر ايفيان الفرنسية للدول الصناعية الثماني الكبرى بأن الازدهار الاقتصادي قريب.
فما علاقة الحرب ضد الارهاب بالازدهار الاقتصادي؟ وكيف تحقق الحرب العالمية الحالية الازدهار الاقتصادي مع القضاء على الارهاب؟
ما هو الارهاب؟
مرت على الحرب العالمية ضد الارهاب ما يقرب من السنتين دون ان تكلف ادارة بوش نفسها عناء تعريف الارهاب. ولكننا نستطيع من مسار الحرب ومن التصريحات العديدة المتتالية كل يوم من مختلف شخصيات الادارة وعلى راسهم رئيسهم بوش ان نميز بعض عناصر الارهاب بالعرف الاميركي.
اول واكبر ظاهرة للارهاب كانت اسامة بن لادن وحكومة طالبان في افغانستان. فابن لادن، ربيب الولايات المتحدة اثناء مقاومة الاحتلال السوفييتي لافغانستان، اعتبر العقل المدبر لاحداث ١١ سبتمبر. وحكومة طالبان اعتبرت حكومة ارهابية لذا اصبح من الضروري اعلان الحرب على افغانستان كمرحلة اولى في الحرب ضد الارهاب. وشنت الولايات المتحدة بتخويل من مجلس الامن هجومها على افغانستان وهي دولة لم تكن خاضعة للولايات المتحدة كليا واحتلتها وعينت حكومة افغانية صورية تقوم بتثبيت احتلالها ونهب ثرواتها واستخدمت فرق مرتزقة من دول عدة لحماية احتلالها لافغانستان. ولكن بن لادن مازال حيا يرزق في مكان ما من العالم وما زال الارهاب، بصورة مقاومة الاحتلال الاجنبي لافغانستان, وسيبقى ويشتد طيلة وجود الاحتلال الاميركي وسيبقى الارهاب بهذا المفهوم قائما رغم سقوط حكم طالبان ورغم الدمار الذي سببه الاحتلال الاميركي لافغانستان.
والشكل الاخر للارهاب في العرف الاميركي هو امتلاك الدول التي لا تحبها الولايات المتحدة ما يسمى باسلحة الدمار الشامل او طموح هذه الدول في الحصول على اسلحة الدمار الشامل من غير الولايات المتحدة او وجود اسلحة دمار شامل سبق للولايات المتحدة او حليفاتها بيعها لها. وكان العراق اول ضحية من ضحايا هذا النوع من الارهاب. فمعروف ان الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا زودتا صدام حسين باسلحة كيماوية وبايولوجية وبمعدات لمساعدته على تطوير الانتاج النووي حين كانت الولايات المتحدة تحب صدام حسين ولكنها لسبب ما غيرت موقفها من صدام حسين فاصبحت اسلحة الدمار الشامل التي زودوه بها اسلحة دمار شامل تشكل خطرا على امن الولايات المتحدة وبريطانيا والعالم كله واصبح من الضروري ازالة اسلحة الدمار الشامل العراقية رغم ان المفتشين لم يستطيعوا اثبات وجود مثل هذه الاسلحة بعد ان دمرتها الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية سنة ١٩٩١ وما بعدها من سنوات الحصار الخانق على الشعب العراقي. في كتاب جون بيلغر "حكام العالم الجدد" اورد الكاتب العديد من البراهين على تدمير جميع انواع اسلحة الدمار الشامل في العراق اقتبس منها ما يلي:
"في ١٩٩٨ كانت البنية التحتية للاسلحة الكيماوية قد فككت او دمرت من قبل لجان التفتيش اونسكوم او من قبل العراق وفقا لوصاياها. وكان برنامج الاسلحة البيولوجية قد انتهى وازيلت كافة المرافق الكبرى. وكان برنامج الاسلحة النووية قد ازيل نهائيا. وكان برنامج الصواريخ البالستية البعيدة المدى قد ازيل نهائيا. لو كان علي ان احدد تهديد العراق للعالم لقدرته صفرا" (من حديث للكاتب مع سكوت ريتر الذي كان احد كبار المفتشين في اونسكوم. (بيلغر، حكام العالم الجدد ص٥٩)
وشنت الولايات المتحدة وبريطانيا حربهما على العراق بغية نزع اسلحة الدمار الشامل العراقية باسلحة دمار شامل اقوى وافضع منها. واحتلت الولايات المتحدة العراق بدون ان تجد ذرة من اسلحة الدمار الشامل المزعومة ولكنها اعلنت ان حربها تستهدف اسقاط نظام صدام حسين وتحرير الشعب العراقي واعادة ثرواته اليه. ولكن الارهاب متمثلا بمقاومة العراقيين للاحتلال الاميركي مازال قائما ومتواصلا وسيزداد حدة طالما بقي الاحتلال الاجنبي للعراق.
وتشمل حيازة اسلحة الدمار الشامل او محاولة الحصول عليها دولا اطلق عليها الرئيس بوش دول محور الشر وهي العراق وايران وكوريا الشمالية. وقد انتهت الحرب ضد اول دول محور الشر وتخلص العالم منها وبقي ان تقوم الولايات المتحدة بالقضاء على طرفي محور الشر الاخرين لانقاذ الولايات المتحدة والعالم من شرهما.
والشكل الثالث من الارهاب الذي نشاهده هو مقاومة الاحتلال. فكل حركة تقاوم احتلالا من قبل الولايات المتحدة او من قبل احدى حليفاتها او اية دولة خاضعة لنفوذها هو ارهاب. وعليه فان المجازر التي تنفذ لسحق هذه الحركات المقاومة للاحتلال هي دفاع عن النفس. وابرز مثال قريب منا لانه يقع في منطقتنا هو مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. فمقاومة الشعب الفلسطيني هو الارهاب والمجازر التي تقوم بها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية دفاع عن النفس. وامثال ذلك كثيرة في ارجاء العالم والولايات المتحدة تدافع عن نفسها في افغانستان وفي العراق وفي اميركا اللاتينية وافريقيا وكوريا واليابان وفي ارجاء العالم.
نوع اخر من الارهاب في العرف الاميركي هو ايواء الارهاب او تشجيع الارهاب او مساعدة الارهاب. فثمة دول تؤوي الارهاب مثل سوريا ولبنان واليمن وغيرها. وعلى هذه الدول ان تقضي على الارهاب الذي تؤويه. فعلى سورية ولبنان مثلا ان يقضيا على حزب الله الارهابي. لذا فان الولايات المتحدة تفرض على مثل هذه الدول ان تقضي على الارهاب في داخلها, وفي حالة عدم امكان هذه الدول تحقيق ذلك فعليها ان تقبل مساعدة الولايات المتحدة في القضاء على هذا النوع من الارهاب. فالجيش الاميركي من حقه ان يدخل الفيليبين مثلا لمساعدة دولتها على القضاء على الارهاب. اما اذا رفضت مثل هذه الدول قبول مساعدة الجيش الاميركي اصبحت هذه الدول نفسها ارهابية ويجب معاقبتها او احتلالها للقضاء على الارهاب. ويشمل هذا الباب تشجيع الارهاب او مساعدته. فاذا قدمت اية منظمة خيرية بعض المساعدة لمنكوبي الشعب الفلسطيني مثلا فانها تقوم بذلك بتشجيع الارهاب ومساعدته ويصبح من حق الولايات المتحدة تجميد او مصادرة اموال هذه المنظمات لمنعها عن مساعدة الارهاب او تشجيعه. وقد رأينا كيف جمدت الولايات المتحدة اموال بعض المنظمات الخيرية العربية بهذه الحجة. وليس بعيدا عنا قرار مؤتمر شرم الشيخ الاخير بالامتناع عن تقديم المساعدات المالية للارهاب الفلسطيني.
هذه نماذج قليلة عن مفهوم الولايات المتحدة للارهاب ولابد ان استمرار الحرب العالمية على الارهاب سيكشف لنا العديد من صور الارهاب بالعرف الاميركي وصور القضاء على الارهاب بمساندة الامم المتحدة او بدونها.
اورد بيلغر في كتابه "حكام العالم الجدد" رأي ريتشارد رينر، مخطط الحرب الباردة في ادارة ريغن في توضيح نظرية مستشاري رامسفلد ونائبه بول وولفيتز بان الحرب ضد الارهاب هي في الاساس حرب عالمية. يقول برل "لا توجد مراحل؛ انها حرب شاملة. اننا نحارب اعداء ذوي طبائع شتى. يوجد الكثير منهم هناك في الخارج. كل هذا الحديث عن اننا نذهب اولا الى افغانستان ثم نتجه الى العراق وبعد ذلك نتطلع لنرى اين تتجه الامور هي الطريقة الخاطئة اطلاقا للنظر الى الامر ... فاذا وجهنا انظارنا للعالم ابعد من ذلك لنجعلها تشمل العالم كله ولا نحاول ان نجمع معا الدبلوماسية الذكية، بل مجرد ان نشن حربا شاملة ... فان اطفالنا سينشدون عنا اعظم الاناشيد في السنوات المقبلة." (مجلة غرين ليفت ويكلي الاسبوعية، ١٢ كانون الاول ٢٠٠١. بيلغر، حكام العالم الجدد، ص١٠)
ومنذ يوم ١١ سبتمبر، حين اعلن الرئيس بوش الحرب العالمية الثالثة رسميا، اعلن بشكل قاطع وباشكال متعددة ان العالم اصبح كله اما حليفا للولايات المتحدة في حربها او حليفا للارهاب. فاعلن صراحة ان العالم اما معنا او ضدنا مع الارهاب، وان من ليس معنا عدو لنا. وقد شمل هذا حتى بعضا من اهم حليفات الولايات المتحدة مثل فرنسا والمانيا لمعارضتهما الحرب على العراق وحتى مجلس الامن لعدم الموافقة على تخويل الولايات المتحدة بالحرب على العراق كما فعل في الحرب على افغانستان.
كل العالم يعرف هذه الحقائق. ولكن معظم دول العالم، رغم علمها بطبيعة الحرب العدوانية الاميركية على العالم، اعلنت حلفها مع الولايات المتحدة في هذه الحرب المدمرة خوفا من وصمها بالارهاب. فالحرب العالمية ضد الارهاب ليست في الواقع سوى حرب ارهاب تشنها الولايات المتحدة ضد العالم كله بدون استثناء.
ولكن ما علاقة حرب الارهاب هذه بانقاذ الولايات المتحدة من ازمتها الاقتصادية؟ وكيف تؤدي الحرب الى الانتعاش او حتى الى الازدهار الاقتصادي القريب الذي يبشر به الرئيس الفرنسي شيراك؟
الحرب كوسيلة للازدهار الاقتصادي
لكي نفهم كيف يمكن ان تكون الحرب وسيلة للازدهار الاقتصادي علينا اولا ان نتعرف على مفهوم الازدهار الاقتصادي بالنسبة للولايات المتحدة او للدول الصناعية الكبرى الاخرى. فقد يتصور المرء ان الازدهار الاقتصادي يعني تحسين اوضاع الشعوب الاقتصادية او القضاء على البطالة او رفع المستوى المعاشي للشعوب او القضاء على الفقر او انقاذ الشعوب الجائعة من الموت المحتم الذي ينتظرها. وهذا مفهوم لا يخطر ببال حكام الولايات المتحدة والدول الاستعمارية الاخرى.
ان الازمة او الركود بالنسبة للطبقات الراسمالية هو وجود صعوبات امامها في هدفها الاساسي الذي هو نيل اقصى الارباح. والازدهار الاقتصادي بالنسبة لها هو التغلب على هذه الصعوبات والتقرب نحو تحقيق اقصى الارباح الذي لا يمكن بلوغه في العرف الراسمال ابدا. وبهذا المعنى فقط يمكن ان نفهم كيف يمكن للحرب ان تؤدي الى الازدهار الاقتصادي.
الحرب وسيلة لزيادة الاستهلاك زيادة كبيرة لا يمكن تحقيقها في ايام السلم ولذلك تلجأ الدول الراسمالية الى الحرب بغية زيادة استهلاك سلعها بشتى انواعها كأحد اهم الاسباب لشن الحروب. ولكن السلع الاكثر استهلاكا خلال الحرب هي السلاح. ففي الحرب تستهلك كميات هائلة من الاسلحة بشتى انواعها وتوفر للشركات المنتجة للسلاح افضل فرصة لزيادة انتاجها وسرعة بيعها واستهلاكها. والسلاح سلعة مثل سائر السلع ينتجها الراسمالي لا لفائدتها للمجتمع وانما لكي تدر له المزيد والمزيد من الارباح. ولكن السلاح من ناحية اخرى سلعة تختلف بصفاتها كثيرا عن السلع المدنية. وكل صفاتها الخاصة هي لمصلحة الراسمالي المنتج للاسلحة. لذا فان الحرب تشكل مصدر ارباح يسيل له لعاب الراسماليين.
فالراسمالي ينتج السلع المدنية ولا يعرف مقدار الطلب عليها بصورة دقيقة الى ان ينزلها الى السوق. فاذا كان انتاجه يزيد عن الطلب على تلك السلعة كسدت وصعب تصريفها. ولكن الراسمالي حين ينتج الاسلحة يعرف مقدما مقدار الطلب عليها بل ان الطلب عليها يأتي قبل انتاجها حين تعقد الاتفاقيات مثلا على بيع كميات من الطائرات المقاتلة او غيرها على ان يجري انتاجها خلال عدة سنوات.
والسلاح سلعة تشتريها الحكومات مباشرة بكمياتها الكبيرة وليس الافراد. والحكومات قادرة على ايجاد الوسائل المالية اللازمة لتسديد اثمانها. ولا فرق في ذلك ان كانت الحكومة المشترية هي حكومة المنتج ذاتها او الكحومات الاخرى التي ترغب في شراء الاسلحة. ان ما يهم الراسمالي ليس مصدر الدفع بل الدفع نفسه.
وبينما تتراكم السلع المدنية في مخازن الراسماليين الى حين بيعها وتصريفها ما يؤدي الى الاضرار المادية الهائلة عند عدم بيعها يجري تراكم الاسلحة عند مشتريها وبذلك لا تعاني الشركات الراسمالية المنتجة للاسلحة من الكساد في استهلاك الاسلحة. فعلى الحكومات المشترية للاسلحة ان تجد طرق استهلاكها والتخلص منها.
والاسلحة في ايامنا، ايام الثورة التكنولوجية الهائلة، سريعة التطور بحيث ان الصواريخ والطائرات والدبابات والمدافع وغيرها تصبح قديمة بالية قبل استلامها وعليه ينبغي للحكومات ان تشتري الاسلحة الجديدة لكي تبقى في المستوى العسكري المطلوب لمجابهة الظروف الحربية الجديدة او لمنافسة جيرانها على التفوق العسكري.
قال متحر من الكونغرس الاميركي حول اسباب بيع الولايات المتحدة وبريطانيا للاسلحة البيولوجية الى عراق صدام "اتفق الجميع على ان النقود هي كل شيء. ان حكومة الولايات المتحدة كانت تعلم والكحومة البريطانية كانت تعلم فهل اثار ذلك اهتمامهما ؟ كلا . فقد كان الامر منافسة مع الالمان. هكذا تجري تجارة الاسلحة." (جون بيلغر، حكام العالم الجدد, اقتباس من جريدة الغارديان البريطانية بتاريخ ٨ ايار (مايو) ١٩٩٢)
كل هذا صحيح في ايام السلم ولكن الحرب تضاعف انتاج الاسلحة بكميات كبيرة لسد حاجات الاطراف المتحاربة. لذا فان الحرب مصدر هائل لزيادة ارباح منتجي الاسلحة الى مستويات لا يحلمون بها في ايام السلم وهذا هو الازدهار الاقتصادي الذي تنتجه الحروب.
واستخدام الاسلحة يؤدي بالضرورة لا الى الضحايا البشرية الهائلة فقط بل الى الدمار والخراب وتحويل المدن الى خرائب. وهذا يعني ان الحرب تجلب في اعقابها المزيد من الارباح للشركات الراسمالية في اعادة بناء ما خربته الحرب. فلو فرضنا ان العلم قد توصل الى اسلحة تستطيع ان تقتل البشر بدون ان تدمر المدن فان هذا يؤدي الى خفض ارباح الشركات الراسمالية ولذلك فانها لا تسمح باستخدامه. فالتدمير هدف لابد منه في الحروب لزيادة ارباح الراسماليين بحجة اعادة الاعمار.
حتى تفكيك الاسلحة المتراكمة التي لم تعد صالحة للاستخدام تشكل مصدر ارباح اضافية للشركات الراسمالية المنتجة لها. فلو فرضنا ان الحكومات وجدت من المناسب تفكيك جزء من القنابل الذرية المتراكمة فيها او كلها فان التفكيك ذاته عمل تقوم الشركات الراسمالية بانجازه وتحقيق المزيد من الارباح بذلك.
في تجارة السلع المدنية بين مختلف الشركات يجري الشراء عادة من اجل البيع ولذلك تكون الاسعار موضع تفاوض ولا يمكن بيع السلع باسعار احتكارية لمدد طويلة. اما تجارة الاسلحة فتختلف عن ذلك نوعا ما اذ ان مشتري الاسلحة هم الحكومات عادة والحكومات تشتريها لا لغرض بيعها كما هو الحال في التجارة المدنية بل تشتريها لزيادة ترساناتها العسكرية. اي ان البيع والشراء في هذه الحالة هو في اتجاه واحد من البائع الى المشتري. ان هذه الصفة لتجارة الاسلحة تجعل بامكان الشركات البائعة فرض اسعار احتكارية عالية على الدوام وبصورة مستمرة. حتى حين تقوم بعض الحكومات ببيع جزء من الاسلحة القديمة المتراكمة في ترساناتها لحكومات اخرى تحتاج الى استخدامها بسرعة فان بيعها يجري بنفس الطريقة ويمكن فرض اسعار احتكارية عليها.
يجري تصدير الاسلحة عادة بموجب اتفاقيات تعقد بين الحكومة المشترية والحكومة البائعة. ولتصدير الاسلحة صفة اخرى بالغة الاهمية. فالحكومة البائعة تفرض شروطا احتكارية متنوعة على الحكومة المشترية قبل الموافقة على تصدير الاسلحة اليها. واهم هذه الشروط فيما يتعلق بموضوعنا هو ان الحكومة المشترية لا يجوز لها استخدام هذه الاسلحة بدون موافقة او ترخيص الدولة البائعة. فالحكومة المشترية تدفع اثمان الاسلحة التي تشتريها كاملة وبهذا تصبح الاسلحة ملكا لها قانونيا. ولكن هذا الشرط يبقي ملكية الاسلحة وامكانية استعمالها في الواقع ملكا للحكومة البائعة. من المعروف ان حكومات الخليج كلها تشتري اسلحة بعشرات مليارات الدولارات كل سنة. ولكن هل تستطيع اي من هذه الحكومات تقديم بندقية واحدة للشعب الفلسطيني مثلا؟ ان هذا مستحيل لانه يعرض هذه الحكومات لغضب الولايات المتحدة او بريطانيا او حتى روسيا صاحبة الاسلحة الحقيقية. بل اكثر من ذلك نرى ان الولايات المتحدة تجمد اموال كل شركة خيرية تتبرع ببعض النقود لمساعدة الشعب الفلسطيني المنكوب فكيف اذا تبرع احدهم بالسلاح لهذا الشعب؟ وقد شاهدنا الضجة التي حصلت حول سفينة تحمل اسلحة ادعت اسرائيل انها كانت متجهة الى فلسطين كمثال على ذلك. وعلى العكس من ذلك من المعروف ان الولايات المتحدة كانت تزود صدام حسين بالاسلحة اثناء حربه ضد ايران عن طريق الدول العربية لكي توهم العالم بانها واقفة على الحياد في تلك الحرب.
من كل ما سبق نرى ان الحروب وتجارة الاسلحة صفة ملازمة للنظام الراسمالي وهي احدى اهم وسائل التخلص من الازمات الاقتصادية التي تعاني منها الدول الراسمالية بصورة مستمرة في ايامنا. ومن هذا نرى كيف ان حرب الارهاب العالمية التي تشنها الولايات المتحدة بامكانها ان تعالج الكساد الذي تعاني منه الشركات الاميركية ولو جزئيا ونرى المنطق في ترابط الهدفين اللذين حددهما بوش لحربه العالمية.
حتمية الحرب العالمية في عصرنا
كان لينين هو الذي بحث موضوع تحول الراسمالية الى المرحلة الامبريالية خصوصا في كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية". وبين في بحثه ان الدول الراسمالية الامبريالية قد اكملت اقتسام العالم فيما بينها وان هذه الدول تسعى الى اعادة اقتسام العالم كل وفقا لمصالحها مما يجعل الحرب العالمية حتمية. ورغم نشوء الاتحاد السوفييتي في سدس الكرة الارضية بقيت الحرب العالمية حتمية في فترة ما بين الحربين العالميتين. ووقعت الحرب العالمية الثانية وكان من نتائجها خروج الاتحاد السوفييتي منتصرا على النازية ونشوء المعسكر الاشتراكي.
وقد وقع على عاتق ستالين واجب دراسة اوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن النتائج التي توصل اليها ان وجود معسكر اشتراكي لا مصلحة له في الحرب وليست الحروب من طبيعته كما هي من طبيعة النظام الراسمالي جعل الحرب العالمية غير حتمية. وهذا يعني ان خطر الحرب العالمية مازال قائما ولكن احتمال عدم وقوعها ممكن. وعلى هذا الاساس وجه نداءه المشهور "ان السلم سيصان ويتعزز اذا أخذت الشعوب قضية السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية" . فنشأت حركة السلام العالمية التي ضمت مئات الملايين من البشر من جميع الطبقات الاجتماعية ومن شتى الاتجاهات السياسية والتي كان شعارها الاساسي هو صيانة السلم العالمي ومنع وقوع حرب عالمية جديدة.
دام هذا الوضع حتى سنة ١٩٥٣ اي حتى وفاة ستالين. ولدى استيلاء زمرة خروشوف على قيادة الحزب والدولة وممارستهم سياسة تؤدي الى عودة الراسمالية في الاتحاد السوفييتي. حينذاك تحول الاتحاد السوفييتي من دولة محبة للسلام ومساندة لكل حركة ثورية وتحررية في العالم الى دولة معادية للاشتراكية، معادية للماركسية، معادية للحركة الشيوعية العالمية، ومعادية لكل حركة ثورية في العالم. وتحت قيادتهم تحولت حركة السلام العالمي من حركة مناضلة في سبيل السلام العالمي ومنع وقوع حرب عالممية ثالثة الى حركة مساندة لمفاوضات السلام بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وسائر الدول الامبريالية وهي مفاوضات عقيمة لا هدف لها الا خدع الشعوب وتضليلها واسدال ستار على سباق التسلح. فتحت ستار مفاوضات نزع السلاح تضاعف انتاج الاسلحة عشرات المرات.
من ذلك الحين اضمحلت امكانية منع الحرب العالمية الثالثة واصبحت الحرب العالمية حتمية كما كانت قبل الحربين العالميتين السابقتين. وقد انتشرت الحروب في هذه الفترة في ارجاء العالم. فليس في العالم بقعة لا تنتشر فيها الحروب التي تمارسها الدول الاستعمارية وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية مباشرة او الحروب التي تبدو حروبا اهلية ولو انها صراع امبريالي تحركه وتوجهه الدول الاستعمارية تحقيقا لمصالحها الامبريالية المتناقضة. فالحرب اتسعت واصبحت على نطاق عالمي ولم ينقصها لكي تتخذ صفة الحرب العالمية سوى دخول الدول العظمى علنيا في حرب مباشرة بينها. وفي ١١ ايلول (سبتمبر) انتهى هذا الوضع واعلنت الولايات المتحدة الحرب العالمية رسميا على لسان رئيسها بوش الابن. ولكن هذه الحرب تختلف عن الحربين العالميتين السابقتين اختلافا جوهريا.
طبيعة الحرب العالمية الثالثة
في الحربين العالميتين السابقتين كانت الدول الاستعمارية الكبرى منقسمة على نفسها الى معسكرين يتحاربان من اجل اعادة تقسيم العالم فيما بينهما. ففي كلا الحربين كانت المانيا تحاول ان تغتصب بعض مستعمرات بريطانيا وفرنسا في الحرب. اما الحرب العالمية الثالثة فهي حرب الولايات المتحدة من اجل اغتصاب العالم كله واستعماره وابعاد حليفاتها الدول الامبريالية او ما يدعى بالدول الصناعية السبع او الثماني الكبرى عن كل مصالحها الامبريالية.
في الحربين العالميتين السابقتين لم تدخل الولايات المتحدة الحرب الا مؤخرا ولكنها في كلا الحربين تحولت الى المجهز الرئيسي للسلاح والمواد الاخرى لكلا الطرفين المتحاربين مما ادى الى ازدهارها اقتصاديا ونمو اقتصادها بصورة هائلة. وعند انتهاء الحرب كان عليها ان تجد الاسواق ومصادر الخام اللازمة لمواصلة هذا التطور الاقتصادي الهائل. ولم يكن امام الولايات المتحدة سوى ان تحصل على هذه الاسواق من حليفاتها بريطانيا وفرنسا او من الدول المنهارة المانيا واليابان وايطاليا في نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد حققت ذلك سلميا نوعا ما بواسطة مشروع مارشال وباحتلال هذه الدول عسكريا بانشاء القواعد العسكرية الاميركية فيها التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا وبواسطة حلف شمال الاطلسي الذي كانت وما زالت هي المسيطرة عليه والموجهة له وفقا لمصالحها.
في الحربين العالميتين السابقتين لم تكن الولايات المتحدة طرفا بهما منذ البداية اما الحرب العالمية الثالثة فقد كانت الولايات المتحدة هي الدولة التي بدأتها وهي التي تنشر فيها جيوشها في ارجاء العالم وهي التي تستخدم فيها اسلحتها المتطورة تكنولوجيا وهي الدولة العظمى الوحيدة التي توجه الحرب وتوجه السياسة العالمية بمفردها وما على الدول الاخرى الا اطاعتها واعلان خضوعها للولايات المتحدة الاميركية.
في الحربين العالميتين السابقتين كانت هناك كتلتان من الدول تحاربان بعضهما بجيوشهما واسلحتهما. اما في الحرب العالمية الثالثة فان الولايات المتحدة تشن حربها على عدو غير منظور، عدو لا جيش له، عدو لا دولة له، عدو غير معروف الهوية، عدو ليس له موقع جغرافي محدد، عدو موجود في ارجاء العالم، عدو اسمه الارهاب. اين هو الارهاب؟ هو في العالم كله في الولايات المتحدة ذاتها وفي الدول الحليفة لها وفي دول العالم اجمع. فالارهاب يشمل اميركا اللاتينية وافريقيا واسيا واوروبا واستراليا. ولذلك فان الولايات المتحدة اعلنت الحرب على العالم كله، فمن ليس معنا هو عدونا ومن لا يحالفنا في محاربة الارهاب هو ارهابي او مؤو للارهاب. وقد حددت الولايات المتحدة محاور للارهاب ودعتها محاور الشر وحددت العديد من الدول التي اما انها تؤوي الارهاب او تؤيد الارهاب او ارهابية. واصبح على الدول ان تقبل احتلال الولايات المتحدة عسكريا بحجة مساعدتها على محاربة الارهاب والقضاء عليه في داخلها والا فان هذه الدول تتعرض الى غضب الولايات المتحدة الذي يؤدي عادة الى احتلالها.
في الحربين العالميتين السابقتين كانت شعوب الدول المتحاربة هي التي تتحمل تكاليف الحرب الباهظة بينما كانت الولايات المتحدة تجتني اقصى الارباح من مبيعاتها الى هذه الدول والى العالم اجمع مما مكنها ان تلقي بعض الفتات لعمالها وفلاحيها اما في الحرب العالمية الثالثة فان الولايات المتحدة هي التي تتكلف بنفقات حربها بالدرجة الرئيسية وهذا ما يؤدي الى تفاقم اوضاع الشعب الاميركي المادية والمعاشية.
تمتاز الحرب العالمية الثالثة بانها حرب ضد الصديق قبل العدو. فمن اجل الهجوم على دولة مثل افغانستان قامت الولايات المتحدة باحتلال باكستان وتاجكستان وقرغيزستان واوزبكستان عسكريا. ولم يكن هذا الاحتلال مؤقتا حتى نهاية الحرب ضد افغانستان بل هو احتلال مستمر الى امد غير مسمى. وكانت الولايات المتحدة قد استخدمت نفس الاسلوب في حربها ضد العراق فيما يسمى بحرب الخليج الثانية بحجة تحرير الكويت. فقد قامت اولا باحتلال كافة دول الخليج مثل السعودية والبحرين والكويت وقطر عسكريا واقامت فيها القواعد العسكرية لا بصفتها دولة احتلال بل بصفتها الصديق الصدوق الذي يقوم باحتلالها من اجل انقاذها من صدام والدفاع عنها ضد عدوانه. ولكن احتلال الخليج ما زال قائما بعد اكثر من عشر سنوات وهو مستمر الى ان تأتي القوة التي تستطيع اخراجها من هذه البلدان.
بدات الولايات المتحدة حرب الارهاب العالمية بالاعداد للهجوم على افغانستان لغرض القضاء على منظمة القاعدة وزعيمها اسامة بن لادن وحكم طالبان وتحرير الشعب الافغاني منها. وفي سبيل ذلك كان على جميع دول العالم ان تحالفها في تلك الحرب. فسرعان ما اعلنت جميع دول العالم تقريبا تحالفها مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الارهاب ومساندتها لحربها العدوانية ضد افغانستان. وقد اعطى مجلس الامن الضوء الاخضر للولايات المتحدة لغزو افغانستان واحتلالها فجاءت الحرب تحت راية الامم المتحدة وباجماع المجتمع الدولي كالحروب التي سبقتها مثل كوريا وفيتنام والعراق. ومن المعروف ان الولايات المتحدة استهلكت في حربها لغزو افغانستان اضعاف ما استعمل من الاسلحة المدمرة خلال الحرب العالمية الثانية كلها. وكانت النتيجة احتلال افغانستان احتلالا عسكريا وتنصيب حكومة اشد تأمركا من اميركا فيها واستمرار استعمار افغانستان الى امد غير محدود مع استمرار نهب ثرواتها لزيادة ارباح الراسماليين الاميركان.
خارطة طريق الولايات المتحدة في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني
كانت اسرائيل منذ نشوئها حليفة ثابتة للدول الامبريايالية وخصوصا للولايات المتحدة. وكانت سياسة الدول الامبريالية تسليح اسرائيل بحيث تكون دائما في حالة تفوق عسكري على كافة الدول العربية المجاورة لها وغير المجاورة لها. وقد استمرت هذه السياسة بصورة دائمة حتى يومنا هذا.
وجرى احتلال الضفة الغربية وغزة في ١٩٦٧ وبدا كأن الحلم الصهيوني باسرائيل الكبرى قد بدأ يتحقق. فقد تحقق استيلاء اسرائيل على الضفة الغربية وغزة خلال ستة ايام وبمنتهى السهولة واقل التضحيات البشرية. ولكن شيئا كان خفيا على حكام اسرائيل هو ان الحكومات يمكن قهرها والتغلب عليها بالحرب ولكن الشعوب شيء اخر لا يمكن القهر العسكري ان يتغلب عليه. وقد عبر زعيم اسرائيل الاكبر، بن غوريون، عن ذلك بقوله ان الضفة الغربية وغزة هي سرطان اسرائيل. ونشأ صراع الشعب الفلسليني ضد الاحتلال الاسرائيلي بمقاييس مختلفة حسب الظروف ولكن هذا الصراع لم يتوقف ولم تمنعه فرص العمل التي هيأها الاسرائيليون للعمال والفلاحين الفلسطينيين كايد عاملة رخيصة. وحدثت الانتفاضة الاولى وظهر اطفال الحجارة مما ازعج الحكومات الاسرائيلية لان الجيش الاسرائيلي اعد لمحاربة الجيوش ولم يجر اعداده لمحاربة اطفال الحجارة. فقامت اميركا، "راعية السلام"، باعداد خطة اوسلو لانهاء الانتفاضة والدخول في مفاوضات دامت عشر سنوات لم تشهد سوى تنازلات فلسطينية بدون اية تنازلات من قبل اسرائيل ونالت اسرائيل فرصة لتوسيع مستوطناتها وجعلها امرا واقعا، الى ان اقتحم شارون المسجد الاقصى فاشعل نار الانتفاضة الجديدة وانتهى عهد اوسلو عند هذا الحد بدون ان يعطي الفلسطينيين اية مكاسب حقيقية.
كانت الانتفاضة الجديدة اشد عنفا واكثر ازعاجا للحكومات الاسرائيلية وخصوصا عند اشتداد العمليات الاستشهادية او الانتحارية التي اودت بحياة العديد من الاسرائيليين. وقد وعد شارون باخضاع الفلسطينيين وجعلهم يركعون له بالقوة العسكرية فقام الجيش الاسرائيلي بهجماته المتنوعة وبجميع اشكال الاسلحة من قنابل وصواريخ واغتيالات واعتقالات وهدم البيوت وجرف المزارع لاكثر من سنتين فلم يخضع الفلسطينيون ولم تقمع الانتفاضة بحيث اضطر حتى شارون الى الاعتراف بانه لا يمكن ابقاء شعب من ثلاثة ملايين ونصف تحت الاحتلال بصورة دائمة.
وكانت السلطة الفلسطينية في طيلة هذه المدة تطالب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والامم المتحدة بالضغط على اسرائيل واجبارها على الانسحاب من الاراضي المحتلة وازالة المستوطنات ومنح الشعب الفلسطيني حق اقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس واعادة اللاجئين الخ...
وجاءت خارطة الطريق الجديدة التي وعد فيها بوش باقامة دولة فلسطينية في سنة ٢٠٠٥. وتذكرني خارطة الطريق هذه بالمثل الشعبي "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة". فالدولة الفلسطينية هي عصفور على الشجرة وسيبقى على الشجرة حتى ٢٠٠٥. ولكن هناك عصافير في اليد لا تنتظر حتى ٢٠٠٥. علينا قبل كل شيء ان نلاحظ التوقيت في اعلان خارطة الطريق. فرغم التحدث عن خارطة الطريق وعن قرب اعلانها لم يجر اعلانها رسميا الا بعد غزو العراق واحتلاله عسكريا. وقد اعلن باول وزير خارجية الولايات المتحدة ان على دول الشرق الاوسط كلها ان تتعظ وان تفهم نتائج الحرب العراقية. فما الذي يجب على سورية ولبنان وايران مثلا ان تفهمه من نتائج الحرب العراقية؟ ان اهم نتيجة يمكن استخلاصها هي ان من يقف في وجه الولايات المتحدة الاميركية او يعارضها او يتحدى مصالحها في استعباد العالم كله مصيره مصير العراق. وهذا بالطبع الدرس الذي تريد الولايات المتحدة تلقينه للسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وواضح ان خارطة الطريق لم يجر اعلانها قبل نيل العصفور الاول. فقد كان اول شروط الولايات المتحدة لاعلان خارطة الطريق خلق منصب رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية وتعيين محمود عباس (أبو مازن) بهذا المنصب وقد نالت الولايات المتحدة عصفورها الاول وتحقق خلق منصب رئيس وزراء وعين محمود عباس في هذا المنصب وعين معه محمد دحلان وزيرا للامن رغم ارادة ياسر عرفات.
وطعم العصافير لذيذ وكلما تمتعت الولايات المتحدة بطعم عصفور زادت شهيتها للمزيد من العصافير وكما يقول المثل العراقي "اليضوغة يبلش". فتوالت الطلبات على العصافير. فاول عصفور كان اعلان محمود عباس معارضته للارهاب مهما كانت دوافعه واغراضه وحدد الارهاب بانه الاعتداء على المدنيين الاسرائيليين ولم يشمل بالارهاب المجازر التي تجري ضد الفلسطينيين. والعصفور الاخر هو تعهد محمود عباس بايقاف الانتفاضة او ايقاف الارهاب الفلسطيني. والحبل على الجرار.
ماهي حقيقة خارطة الطريق هذه؟ الحقيقة هي ان النزاع الفلسطيني الاسرائيلي ليس في الواقع سوى حرب اميركية هدفها ادامة احتلال فلسطين وارهاب الشرق الاوسط كله عن طريق تسليح اسرائيل ودفعها الى الحرب. فالحرب الجارية في الضفة الغربية ليست من مصلحة الشعب الاسرائيلي. فالشعب الاسرائيلي يقدم الضحايا البشرية كل يوم ويقدم التكاليف الباهظة للحرب ويجعل من شبابه جيشا محتلا يقضي جل حياته في ساحات الحرب وداخل الدبابات مما يشوه حياته كانسان وكرب عائلة. ولا يستفيد من الحرب سوى عدد ضئيل من اصحاب البلايين الاسرائيليين وغير الاسرائيليين.
وليست الحرب في صالح الفلسطينيين الذين يناضلون من اجل حريتهم وانهاء الاحتلال وتحقيق حريتهم في تقرير مصيرهم. فالحرب تؤدي الى الاف الضحايا البشرية والى تدمير البيوت والعمارات وجرف المزارع وتشريد الاطفال اليتامى والقاء الالاف في السجون.
ان خارطة الطريق في واقعها الحالي ليست سوى جزء من خارطة طريق الولايات المتحدة التي تهدف الى السيطرة التامة على العالم كله. فالولايات المتحدة هي الطرف الاساسي في هذه الحرب, والولايات المتحدة هي الامر الناهي في كل ما يتعلق بهذه الحرب. والولايات المتحدة هي التي توجه الاوامر للحكام الاسرائيلييين فيما يجب ان يتخذوه من وسائل لانهاء الحرب لصالحها, والولايات المتحدة هي التي تجهز اسرائيل باشد انواع الاسلحة فتكا لتجربتها على الشعب الفلسطيني. ان الولايات المتحدة في الواقع هي التي تحارب في فلسطين وتتخذ من الشعب الاسرائيلي جيش مرتزقة لها في هذه الحرب ولو ان الشعب الاسرائيلي هو الذي يموله. ولذلك باءت كل النداءات التي توجهها القيادة الفلسطينية وزعماء الدول العربية الموالية للولايات المتحدة بالفشل في دفع الولايات المتحدة الى اجبار اسرائيل على التخلي عن سياستها. فالولايات المتحدة هي العدو وليست هي الراعية للسلام في الشرق الاوسط. ان الحرب الفلسطينة الاسرائيلية هي جزء لا يتجزأ من الحرب العالمية الثالثة التي اعلنتها الولايات المتحدة في ١١ سبتمبر.
ان اخماد الانتفاضة أو انهاء الارهاب كما يسمي ذلك ابو مازن والعديد من زعماء الدول العربية لا يعني بالضرورة انهاء عمليات الاغتيال وتدمير البيوت وجرف المزارع والاعتقالات وغير ذلك. فبالنسبة للولايات المتحدة توجد عمليتان مختلفتان لا علاقة لاحداهما بالاخرى. الانتفاضة والعمليات الانتحارية هي ارهاب ويجب القضاء عليه بكل الوسائل. وثمة عملية اسرائيل في الدفاع عن النفس وهي عملية شرعية بالنسبة للولايات المتحدة وينبغي ان تستمر حتى يتم نزع اسلحة الدمار الشامل التي تهدد امن الولايات المتحدة وامن اسرائيل وامن العالم اجمع من ايدي اطفال الحجارة ولو ان الجيش الاسرائيلي ينتج تلالا من هذه الاسلحة بتدمير العمارات والبيوت وتحويلها الى حجار يستخدمه الاطفال لمهاجمة الدبابات. لذلك ليس غريبا ان يقول رئيس الاستخبارات الاسرائيلي ان اسرائيل تلقت الضوء الاخضر (اي الامر) في مواصلة اغتيال زعماء حماس في الوقت الذي يتشدق بوش وباول بالتأكيد على تحقيق خارطة الطريق. وليس من الغريب ان يظهر باول انزعاجه من اغتيال القواسمة لان ذلك قد يعرقل تنفيذ خارطة الطريق ولكنه في الوقت نفسه يستدرك بان من حق اسرائيل ان تغتاله اذا كانت واثقة من انه يحاول القيام بعمليات ارهابية. وليس غريبا ان تعلن اكثر الفضائيات العربية انزعاج باول بدون ذكر تحفظه واعطاء اسرائيل حق الاغتيال دفاعا عن النفس.
ونسمع كل يوم نداءات القيادات الفلسطينية والعديد من رؤساء الدول العربية للمجتمع الدولي للضغط على اسرائيل. فمن هو المجتمع الدولي؟ هل هناك فعلا مجتمع دولي؟ ان الواقع يثبت ان ليس في العالم مجتمع دولي حقيقي منفصل عن الولايات المتحدة ويشكل ضغطا عليها او رادعا لها. فاذا اعتبرنا الامم المتحدة مثلا مجتمعا دوليا كما هو من المفروض ان تكون فاننا نشاهد ان الولايات المتحدة كانت منذ تأسيسها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم مؤيدة ومساندة لحروب الولايات المتحدة في العالم اجمع. واذا حاولت الامم المتحدة الوقوف ولو مرة في وجه السيطرة الاميركية فان الولايات المتحدة لا تتورع عن اذلال الامم المتحدة وطمس سلطاتها وتأثيرها.ليس في العالم اليوم في الواقع مجتمع دولي حقيقي بل ما يسمى المجتمع الدولي لا وجود له الا حين يقف الى جانب الولايات المتحدة في حروبها.
كذلك نسمع كل يوم عن دور اللوبي اليهودي او اللوبي الصهيوني في التأثير على سياسة الولايات المتحدة ودعوة العرب او المسلمين الى خلق لوبي مشابه ذي تأثير معاكس لتأثير هذا اللوبي اليهودي او لمحاولة ما يسميه بعض الاعلاميين "تحييد الولايات المتحدة". هل يقوم اللوبي اليهودي فعلا بتخطيط سياسة الولايات المتحدة تجاه اسرائيل؟ وهل يشكل هذا التأثير اساسا لدعم الولايات المتحدة لاسرائيل في كل سياساتها؟ اعتقد ان تأثير اللوبي اليهودي على سياسة الولايات المتحدة في اسرائيل او غير اسرائيل ليس سوى ان اللوبي اليهودي هو جزء لا يتجزأ من الادارة الاميركية وبهذه الصفة وحدها يؤثر على سياسة الولايات المتحدة. وليست اسرائيل بالنسبة للوبي اليهودي او للادارة الاميركية سوى احدى الدول المستعمرة اقتصاديا وسياسيا شأنها في ذلك شأن كل دولة مستعمرة اخرى. واسرائيل كما نعلم هي من اكبر مستوردي الاسلحة الاميركية ان لم تكن اكبرها جميعا وهي البعبع الذي يحفز الدول العربية على شراء الاسلحة بعشرات مليارات الدولارات كل سنة من الولايات المتحدة. وليس حرص اللوبي اليهودي على اسرائيل سوى حرصه على الارباح الطائلة التي يجتنيها هذا اللوبي من الامتيازات الاقتصادية التي يحوز عليها في الاقتصاد الاسرائيلي المدني والعسكري. ولو سلك اللوبي اليهودي سياسة مناقضة للسياسة العامة للولايات المتحدة تجاه اسرائيل او غيرها لنبذته الادارة الاميركية ولما كان له اي تأثير على السياسة الاميركية. وهذا هو السبب في ان العرب والمسلمين رغم نفوذهم في الولايات المتحدة لا يستطيعون ان يشكلوا جهازا كاللوبي اليهودي. فاللوبي العربي او الاسلامي من المفروض ان يؤثر على الادارة الاميركية في اتجاه غير اتجاهها الحالي فيما يتعلق باسرائيل وما يسمى دفع الادارة الاميركية على الضغط على اسرائيل لتلبية المطالب العربية في انسحاب اسرائيل من الاراضي الفلسطينية والسماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة فيها وعليه ليس لمثل هذا اللوبي امل في الحياة او النجاح. واذا كان لعربي تأثير على سياسة الولايات المتحدة فلا يكون هذا سوى كون هذا العربي جزء من الادارة الاميركية او عميلا لها. فمثلا سمعنا ان بوش عين جنرالا من اصل لبناني للعمل في الجيش الاميركي الذي يحتل العراق. فهل يستطيع هذا الجنرال اللبناني الاصل الذي يتكلم اللغة العربية ان يتصرف في العراق كعربي له سياسة مناقضة للسياسة الاميركية؟ بالطبع لا. فهو جنرال اميركي وموظف اميركي وخادم للسياسة الاميركية. واذا توفر لوبي عربي من مثل هذا الجنرال فلا يكون سوى لوبي عربي يمثل جزءا من الادارة الاميركية شأنه شأن اللوبي اليهودي.
ان خارطة الطريق ليست سوى خطة اميركية لانهاء الانتفاضة واجبار الفلسطينيين او قيادتهم على تقديم المزيد من التنازلات في انتظار تشكيل الدولة الفلسطينية في ٢٠٠٥. ولم تتطرق خارطة الطريق الى نوع هذه الدولة ولا حدودها ولا مدى استقلاليتها. فهي حتى لو نشأت تكون دولة منزوعة السلاح كما يسميها شارون ولا تتمتع بسياسة خارجية مستقلة الى اخر ذلك من الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة باسم اسرائيل على الفلسطينيين. اي ان هذه الدولة اذا ما تحققت فانها تكون دولة مهمتها القيام بما يحاول ان يقوم به الجيش الاسرائيلي من قمع حركة التحرر الفلسطينية وتثبيت الاحتلال والاستعمار الحقيقي للضفة الغربية وغزة. ان اللجوء الى المفاوضات بين سلطة لا سلطة لها وبين الولايات المتحدة الخارقة القدرة وحليفتها اسرائيل لا تؤدي الى غير ما تؤديه المفاوضات بين الذئب والحمل، اذ هي في كل الحالات تؤدي الى افتراس الحمل. وان نداءات القادة الفلسطينيين وقادة الدول العربية الموالية للولايات المتحدة الموجهة الى الولايات المتحدة ليست سوى نداءات تافهة يوجهها حليف العدو الى العدو الاساسي في القضية من اجل حل هذه القضية. الولايات المتحدة هي الذئب والسلطة الفلسطينية هي الحمل.
تعهد محمود عباس للولايات المتحدة ولاسرائيل باخماد الانتفاضة وانهاء الارهاب الفلسطيني. وينعكس هذا في شعار الهدنة بين حماس والجهاد وبين اسرائيل لمدة معينة على ان تعلن اسرائيل هدنة مماثلة. والهدنة لا تعني سوى اخماد الانتفاضة. ولكن هل يكفي اعلان الهدنة من قبل حماس لارضاء الولايات المتحدة؟ بالطبع لا. فبعد الهدنة يأتي مطلب نزع سلاح هذه المنظمات وثم مطلب اعتقال زعمائها ومطلب تسليم الزعماء الى اسرائيل للمحاكمة وهلم جرا. وينتفي الاتفاق عند اول مطلب لا يستطيع محمود عباس تنفيذه للولايات المتحدة وقد يتحول حتى محمود عباس الى ارهابي يجب التخلص منه شأنه في ذلك شأن عرفات.
وما يدرينا ان لا يظهر قبل قيام الدولة الفلسطينية في ٢٠٠٥ صياد ماهر يصطاد عصفور الدولة من على الشجرة كما اصطاد عصفور اوسلو بعد عشر سنوات من المفاوضات العقيمة؟ واذ ذاك تمحى كل الاتفاقات المبرمة خلال المفاوضات ويبدأ البحث من جديد عن مفاوضات جديدة تقوم على اساس كل التنازلات التي قدمها الجانب الفلسطيني مع انكار الاتفاقات التي قدمها الجانب الاميركي الاسرائيلي. وتبدأ الانتفاضة الثالثة.