الرفيق حسقيل قوجمان
نحتاج الى شطف ادمغتنا ٧
ملاحظة: في الحقيقة كتبت هذا المقال مباشرة بعد كتابة الحلقة السادسة تحت نفس العنوان. وادى نشوء النقاش الطويل حول قانون فائض القيمة الى اهماله او نسيانه. ارسله اليوم للنشر كما كتبته في حينه.
احدى الاتهامات التي توجهها بعض الاحزاب او المنظمات او الجماعات التي تسمي نفسها يسارية او شيوعية هي ان الثورة الاشتراكية لم تلغ الدولة. وتضع بعض الاحزاب في برامجها شعار الغاء الدولة بعد الثورة الاشتراكية. ويبرر هؤلاء اتهامهم على اساس ان الماركسية تؤمن بزوال الدولة من المجتمع. والماركسية فعلا تعتبر ان الدولة شيء زائل نتيجة لتقدم البشرية. ولكن متى وما هي الظروف التي تحقق زوال الدولة وفقا للنظرية الماركسية؟ هذا ما احاول بحثه في هذا المقال.
الدولة لم تنشأ بارادة انسانية او بقرار حكومي وانما نشأت بايجابياتها وسلبياتها بضرورات حتمية جابهت المجتمع. فمنذ اقدم الاوقات وجد الانسان نفسه مضطرا الى القتال من اجل الحفاظ على ارضه او ممتلكاته فنشأت بالضرورة فئات محاربة تطورت سلطتها بتطور المجتمع وزيادة الضرورة لانشاء قوات مسلحة اما للدفاع او للهجوم. وتحول المجتمع من حياة الصيد الى حياة الزراعة اوجد ضرورة تنظيم الري وبناء السدود وغير ذلك من التطورات التاريخية التي طرأت لدى نشوء المجتمع الطبقي الى الدولة بكل مؤسساتها. فالدول نشأت تدريجيا وعن طريق الحاجات الضرورية التي جابهت الانسان. وزوال الدولة هو الاخر لا يجري بارادة شعبية او بقرار اداري او حكومي او حزبي وانما يتحقق بصورة تدريجية ووفقا للظروف التي تحتم زوالها.
ماهي الدولة؟ يمكن الجواب على هذا السؤال باجابات مختلفة وفقا للغرض الذي يراد التوصل اليه من السؤال. واحد هذه الاجوبة هو ان الدولة اداة طبقية يحتمها وجود طبقة تستغل المجتمع وطبقات تستغلها هذه الطبقة. وهذا يعني ان الدولة ضرورة طالما تألف المجتمع من طبقات مستغلة وطبقات مستغلة. ولا يمكن ازالة الدولة بقرار او وفقا لارادة المجتمع او قيادة المجتمع.
الدولة مجموعة مؤسسات تتألف منها وزوال الدولة يتطلب زوال جميع هذه المؤسسات وليس مجرد ازالة الحكومة او انتقال المجتمع من مرحلة الى مرحلة اخرى. فهل يستطيع المجتمع بعد الثورة الاشتراكية مثلا ان يزيل الجيش وهو احد مؤسسات الدولة؟ الجيش ضرورة حتمية لحماية المجتمع الاشتراكي من الدول المعادية المتربصة به ولا يمكن ازالته ما دام خطر الهجوم على هذا المجتمع قائم. التقسيم المألوف لمؤسسات الدولة هو وجود ثلاث سلطات السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة السلطة القضائية ويضاف اليها الان السلطة الرابعة، السلطة الاعلامية. فهل تستطيع هذه الاحزاب التي تضع ضمن مناهجها ازالة الدولة ازالة او الغاء جميع هذه السلطات؟ لا اعتقد ان هذه الاحزاب تستطيع حتى ان تفكر بازالة جميع هذه المؤسسات. ولكنها تفسر زوال الدولة بصور اخرى ضيقة بالقول مثلا ان الشعب يحكم نفسه بنفسه او ما يماثل ذلك. ليس موضوع هذا المقال مناقشة هذه الاحزاب حول شعار ازالة الدولة بعد الثورة الاشتراكية وانما يهدف المقال الى شرح معنى زوال الدولة وكيفية تحققه لا بارادة الانسان وبقرارات وانما بنشوء الضرورات المؤدية الى زوالها.
فما معنى زوال الدولة اذن؟ يعني زوال الحاجة الى المؤسسات التي تشكل الدولة. يعني عدم الحاجة الى وجود الشرطة والمحاكم والسجون والسلطة القضائية كلها. يعني زوال الحاجة الى الجيش وانتاج الاسلحة والمعدات المستخدمة لقتل البشر وتدمير منجزاته. فهل يمكن تحقيق ذلك بعد الثورة الاشتراكية او حتى لدى اكتمال تحول المجتمع الى مجتمع اشتراكي؟ ان تصور امكانية تحقيق ذلك مجرد خيال لا اساس واقعي له. فتعريف الدولة بانها اداة طبقية تحقق اخضاع طبقة لمصلحة الطبقة الحاكمة. فالدولة الاشتراكية هي اداة طبقية تصون مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين ضد مصالح بقايا الطبقة الراسمالية والمراتب المتوسطة التي تولد البرجوازية كل يوم. ولكن النظام الاشتراكي يختلف عن سائر الانظمة السابقة بانه يعمل على ازالة الحاجة الى مؤسسات الدولة تدريجيا. هذا العمل على ازالة الحاجة الى مؤسسات الدولة هو ما نسميه التقدم التدريجي نحو المجتمع الشيوعي. ولكن هذا التحول لا يتم بارادة الحكومة او بقرار حكومي او حزبي وانما يتم فقط عن طريق تحويل المجتمع بحيث لا تعود ثمة حاجة اليه.
يعتقد البعض ان الثورة التكنولوجية التي يعيشها العالم اليوم اصبح بامكانها انتاج ما يكفي لحاجة العالم كله ويستطيع الاستغناء عن الراسمالية بل حتى تحقيق الشيوعية . ولكن هؤلاء ينسون ان الثورة التكنولوجية تدار حاليا ادارة راسمالية. تستطيع الشركات الامبريالية ان تنتج مليارات الموبايلات وانتاج الاشكال المتطورة كل يوم بحيث ان الموبايل الذي كان بالغ التطور امس يصبح اليوم تافها ينبغي استبداله بموبايل جديد له ميزات جديدة. ولكن ملايين الشعوب التي تموت جوعا في افريقيا لا تستطيع ان تتغذى بالموبايل او بالصواريخ الذكية او القنابل الذرية او قنابل اليورانيوم المنضب. هذه الشعوب بحاجة الى ايصال الماء الى اراضيها لكي تستطيع زراعتها وانقاذ اجيالها من الموت جوعا. وهذا ما لا تستطيعه الشركات الامبريالية السائدة على كامل الانتاج الصناعي القائم في العالم والذي لا يؤدي الى زوال الموت جوعا بل يضاعفه.
الثورة التكنولوجية تستطيع فعلا ان تحول العالم بسرعة متناهية لم يحلم بها الانسان من قبل اذا تحققت ادارتها لصالح المجتمع البشري وليس لصالح الشركات الامبريالية وزيادة ارباحها. تتطلب تحقيق ادارة الانتاج الاجتماعي ادارة منظمة لا يمكن تحقيقها الا بوجود مجتمعات اشتراكية كما حصل في الاتحاد السوفييتي في فترة وجود المجتمع الاشتراكي على قصرها.
نعود الان الى موضوع زوال الدولة فكيف يجري تحقيق زوال الدولة؟ احد الشروط التي تؤدي الى زوال الدولة هو تطور انتاج المواد الاستهلاكية بحيث تكفي لسد حاجة المجتمع كله اليها. يجب ان يتحقق وضع يستطيع كل عضو في المجتمع ان يحصل على ما يحتاجه من المواد الاستهلاكية بكل حرية وبدون مقابل. اذا تحقق ذلك تزول الحاجة الى السرقة مثلا. فالسارق يحتاج الى سرقة ما لا يستطيع الحصول عليه بدونها فاذا توفر لكل عضو في المجتمع الحصول على ما يحتاجه بحرية لا يحتاج الى السرقة. في حلقة في سجن الكوت كنا نتحدث عن الشيوعية سالني احد الحاضرين كيف يمكن توزيع المواد بحرية بدون رقابة ولا يقوم الناس بسرقتها؟ كان هذا السائل من عائلة فلاحية فسألته هل كان لديكم خبز في البيت؟ قال طبعا كل يوم والدتي تخبز الخبز في التنور. فسألته هل فكرت يوما باختلاس قرص خبز لاكله في اليوم التالي؟ فاجاب لا طبعا. وسألته هل كان لديكم كثير من الشوكولاتة؟ فقال لا. فسـألته اذا رأيت قليلا من الشوكولاتة على المائدة هل تفكر باختلاس بعضها لكي تاكله في اليوم التالي؟ فضحك وقال طبعا. قلت له هذه هي نتيجة وجود ما يكفي من المواد لسد حاجة كل عضو من المجتمع. اذا علم كل انسان ان بامكانه ان يحصل على ما يحتاجه بحرية متى احتاج لن يفكر باختلاس منها ما يستعمله في اليوم التالي. ان تحقق ذلك في المجتمع يقضي على الحاجة الى توزيع الانتاج بطريقة بيعها وشرائها بشكل السلعة كما كان قائما في المجتمع الاشتراكي ويلغي الحاجة الى النقود لتحقيق ذلك.
ان توفر ما يكفي من المواد الاستهلاكية لسد حاجة كل عضو من اعضاء المجتمع شرط واحد ولكنه ليس الشرط الوحيد الذي يحقق المجتمع الشيوعي. هناك شروط اخرى يجب ان تتحقق للتحول من المجتمع الاشتراكي الى المجتمع الشيوعي. احد اهم هذه الشروط هو تحول كامل الانتاج الاجتماعي الى مشروع واحد موحد تديره هيئة منتخبة ادارة موحدة منظمة. رأينا ان تنظيم الانتاج لا يمكن تحقيقه في مجتمع تملكه شركات مختلفة تعمل كل منها من اجل زيادة ارباحها ومنافسة الشركات الاخرى. لذا كان الانتاج المنظم على نطاق عام الوحيد في التاريخ المجتمع الاشتراكي في فترة قيادة ستالين ولا تعرف اية حالة مشابهة في العالم اليوم. ولكن الانتاج في الاتحاد السوفييتي الاشتراكي لم يصبح انتاجا واحدا موحدا بل كان الانتاج الزراعي على شكل مزارع تعاونية اشتراكية ولكنها ليست ادارة كاملة للدولة. وان احد شروط تحول المجتمع الاشتراكي الى مجتمع شيوعي هو ان تتحول الزراعة التعاونية الى زراعة دولة. ولم يكن بامكان الدولة ان تحقق هذا الشرط قسريا بل كان عليها ان تحققه بصورة تدريجية. وقد بدأت الحكومة السوفييتية فعلا بتحقيق هذا التحول عن طريق تغيير التبادل عن طريق البيع والشراء بين المزارع التعاونية والدولة الى المقايضة عن طريق اقناع المزارع التعاونية بانها تحصل من الدولة عن طريق المقايضة اكثر مما تحصل عليه من التبادل السلعي. وقد تحقق هذا النوع من التبادل مع بعض المزارع التعاونية المنتجة للمواد الاولية للصناعة. ان اكمال هذا التحول يؤدي الى القضاء نهائيا على اي شكل من اشكال الانتاج السلعي. اذ لا يمكن تحقيق المجتمع الشيوعي مع وجود بقية انتاج سلعي مما يتطلب وجود النقود ايضا. فعند تحقيق القضاء على الانتاج السلعي تنتهي الحاجة الى وجود النقود في المجتمع الشيوعي.
احد ضرورات التحول من المجتمع الاشتراكي الى المجتمع الشيوعي هي القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل الجسمي. يجري هذا عن طريق رفع المستوى الفكري لكل عضو في المجتمع الى مستوى العمل الفكري. في المجتمع الشيوعي ينتهي انقسام المجتمع الى عمال ومثقفين وفلاحين. في هذا المجتمع يصبح كل انسان عضوا في المجتمع الشيوعي. ان القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل الجسمي لا يعني انهاء الفرق بينهما. فالعمل الفكري يبقى عملا فكريا والعمل الجسمي يبقى عملا جسميا. ولكن الفرق هو ان كل عضو في المجتمع يصبح عاملا فكريا وفي نفس الوقت عاملا جسميا. كل عضو في المجتمع يمارس في حياته عملا فكريا ويمارس عملا جسميا في الانتاج الاجتماعي. ما يجري هو القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل الجسمي وليس القضاء على الفرق بين العمل الفكري والعمل الجسمي. في المجتمع الشيوعي تصبح المساهمة في العمل الجسمي، في الانتاج الاجتماعي، ظاهرة طبيعية لدى كل عضو في المجتمع ويصبح العمل امرا طبيعيا لدى الانسان لا يجري عن طريق الاجبار او المراقبة.
نرى من كل ما تقدم ان زوال الدولة لا يجري بقرار حكومي او حزبي او ارادي وانما يجري عن طريق انتهاء الحاجة الى مؤسسات الدولة. فاذا اختفت جرائم السرقة لا تبقى ثمة حاجة الى المؤسسات التي تكافح السرقة وكذلك في كل الجرائم حيث تزول الحاجة الى مؤسسات الشرطة والمحاكم والسجون والقضاء وكافة مؤسسات الدولة. وقد شرح ستالين كل ذلك في كراسه الاخير بصورة رائعة. ولكن ستالين توقع وضعا اخر ايضا يبقي الحاجة الى مؤسسة من مؤسسات الدولة رغم تحول المجتمع الاشتراكي الى مجتمع شيوعي. فبما ان الاشتراكية تحققت في قطر واحد ويمكن ان يتحول هذا المجتمع الاشتراكي الى مجتمع شيوعي مع بقاء وجود دول امبريالية تسعى الى القضاء على هذا المجتمع قد يحتاج المجتمع الشيوعي الى الحفاظ على مهمة الدفاع عن الوطن الشيوعي. في هذه الحال تبقى الضرورة الى وجود جيش جاهز ومجهز بكل ما يحتاج اليه للدفاع عن المجتمع الشيوعي.
ان زوال الدولة ومؤسساتها لا يعني زوال تنظيم الانتاج الاجتماعي. فقد جرى تنظيم الانتاج الاجتماعي في المجتمع الاشتراكي عن طريق الدولة وقد اثبت هذا التنظيم جدارته في تطوير المجتمع تطويرا جامعا يشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية في برامج السنوات الخمس. وفي المجتمع الشيوعي تبقى الحاجة الى تنظيم الانتاج الاجتماعي تنظيما يضمن تطور المجتمع تطورا متناسبا مستمرا. الفرق هو ان المؤسسة التي تقوم بتنظيم الانتاج ليست دولة بل مؤسسة اجتماعية.
ملاحظة: في الحقيقة كتبت هذا المقال مباشرة بعد كتابة الحلقة السادسة تحت نفس العنوان. وادى نشوء النقاش الطويل حول قانون فائض القيمة الى اهماله او نسيانه. ارسله اليوم للنشر كما كتبته في حينه.
احدى الاتهامات التي توجهها بعض الاحزاب او المنظمات او الجماعات التي تسمي نفسها يسارية او شيوعية هي ان الثورة الاشتراكية لم تلغ الدولة. وتضع بعض الاحزاب في برامجها شعار الغاء الدولة بعد الثورة الاشتراكية. ويبرر هؤلاء اتهامهم على اساس ان الماركسية تؤمن بزوال الدولة من المجتمع. والماركسية فعلا تعتبر ان الدولة شيء زائل نتيجة لتقدم البشرية. ولكن متى وما هي الظروف التي تحقق زوال الدولة وفقا للنظرية الماركسية؟ هذا ما احاول بحثه في هذا المقال.
الدولة لم تنشأ بارادة انسانية او بقرار حكومي وانما نشأت بايجابياتها وسلبياتها بضرورات حتمية جابهت المجتمع. فمنذ اقدم الاوقات وجد الانسان نفسه مضطرا الى القتال من اجل الحفاظ على ارضه او ممتلكاته فنشأت بالضرورة فئات محاربة تطورت سلطتها بتطور المجتمع وزيادة الضرورة لانشاء قوات مسلحة اما للدفاع او للهجوم. وتحول المجتمع من حياة الصيد الى حياة الزراعة اوجد ضرورة تنظيم الري وبناء السدود وغير ذلك من التطورات التاريخية التي طرأت لدى نشوء المجتمع الطبقي الى الدولة بكل مؤسساتها. فالدول نشأت تدريجيا وعن طريق الحاجات الضرورية التي جابهت الانسان. وزوال الدولة هو الاخر لا يجري بارادة شعبية او بقرار اداري او حكومي او حزبي وانما يتحقق بصورة تدريجية ووفقا للظروف التي تحتم زوالها.
ماهي الدولة؟ يمكن الجواب على هذا السؤال باجابات مختلفة وفقا للغرض الذي يراد التوصل اليه من السؤال. واحد هذه الاجوبة هو ان الدولة اداة طبقية يحتمها وجود طبقة تستغل المجتمع وطبقات تستغلها هذه الطبقة. وهذا يعني ان الدولة ضرورة طالما تألف المجتمع من طبقات مستغلة وطبقات مستغلة. ولا يمكن ازالة الدولة بقرار او وفقا لارادة المجتمع او قيادة المجتمع.
الدولة مجموعة مؤسسات تتألف منها وزوال الدولة يتطلب زوال جميع هذه المؤسسات وليس مجرد ازالة الحكومة او انتقال المجتمع من مرحلة الى مرحلة اخرى. فهل يستطيع المجتمع بعد الثورة الاشتراكية مثلا ان يزيل الجيش وهو احد مؤسسات الدولة؟ الجيش ضرورة حتمية لحماية المجتمع الاشتراكي من الدول المعادية المتربصة به ولا يمكن ازالته ما دام خطر الهجوم على هذا المجتمع قائم. التقسيم المألوف لمؤسسات الدولة هو وجود ثلاث سلطات السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة السلطة القضائية ويضاف اليها الان السلطة الرابعة، السلطة الاعلامية. فهل تستطيع هذه الاحزاب التي تضع ضمن مناهجها ازالة الدولة ازالة او الغاء جميع هذه السلطات؟ لا اعتقد ان هذه الاحزاب تستطيع حتى ان تفكر بازالة جميع هذه المؤسسات. ولكنها تفسر زوال الدولة بصور اخرى ضيقة بالقول مثلا ان الشعب يحكم نفسه بنفسه او ما يماثل ذلك. ليس موضوع هذا المقال مناقشة هذه الاحزاب حول شعار ازالة الدولة بعد الثورة الاشتراكية وانما يهدف المقال الى شرح معنى زوال الدولة وكيفية تحققه لا بارادة الانسان وبقرارات وانما بنشوء الضرورات المؤدية الى زوالها.
فما معنى زوال الدولة اذن؟ يعني زوال الحاجة الى المؤسسات التي تشكل الدولة. يعني عدم الحاجة الى وجود الشرطة والمحاكم والسجون والسلطة القضائية كلها. يعني زوال الحاجة الى الجيش وانتاج الاسلحة والمعدات المستخدمة لقتل البشر وتدمير منجزاته. فهل يمكن تحقيق ذلك بعد الثورة الاشتراكية او حتى لدى اكتمال تحول المجتمع الى مجتمع اشتراكي؟ ان تصور امكانية تحقيق ذلك مجرد خيال لا اساس واقعي له. فتعريف الدولة بانها اداة طبقية تحقق اخضاع طبقة لمصلحة الطبقة الحاكمة. فالدولة الاشتراكية هي اداة طبقية تصون مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين ضد مصالح بقايا الطبقة الراسمالية والمراتب المتوسطة التي تولد البرجوازية كل يوم. ولكن النظام الاشتراكي يختلف عن سائر الانظمة السابقة بانه يعمل على ازالة الحاجة الى مؤسسات الدولة تدريجيا. هذا العمل على ازالة الحاجة الى مؤسسات الدولة هو ما نسميه التقدم التدريجي نحو المجتمع الشيوعي. ولكن هذا التحول لا يتم بارادة الحكومة او بقرار حكومي او حزبي وانما يتم فقط عن طريق تحويل المجتمع بحيث لا تعود ثمة حاجة اليه.
يعتقد البعض ان الثورة التكنولوجية التي يعيشها العالم اليوم اصبح بامكانها انتاج ما يكفي لحاجة العالم كله ويستطيع الاستغناء عن الراسمالية بل حتى تحقيق الشيوعية . ولكن هؤلاء ينسون ان الثورة التكنولوجية تدار حاليا ادارة راسمالية. تستطيع الشركات الامبريالية ان تنتج مليارات الموبايلات وانتاج الاشكال المتطورة كل يوم بحيث ان الموبايل الذي كان بالغ التطور امس يصبح اليوم تافها ينبغي استبداله بموبايل جديد له ميزات جديدة. ولكن ملايين الشعوب التي تموت جوعا في افريقيا لا تستطيع ان تتغذى بالموبايل او بالصواريخ الذكية او القنابل الذرية او قنابل اليورانيوم المنضب. هذه الشعوب بحاجة الى ايصال الماء الى اراضيها لكي تستطيع زراعتها وانقاذ اجيالها من الموت جوعا. وهذا ما لا تستطيعه الشركات الامبريالية السائدة على كامل الانتاج الصناعي القائم في العالم والذي لا يؤدي الى زوال الموت جوعا بل يضاعفه.
الثورة التكنولوجية تستطيع فعلا ان تحول العالم بسرعة متناهية لم يحلم بها الانسان من قبل اذا تحققت ادارتها لصالح المجتمع البشري وليس لصالح الشركات الامبريالية وزيادة ارباحها. تتطلب تحقيق ادارة الانتاج الاجتماعي ادارة منظمة لا يمكن تحقيقها الا بوجود مجتمعات اشتراكية كما حصل في الاتحاد السوفييتي في فترة وجود المجتمع الاشتراكي على قصرها.
نعود الان الى موضوع زوال الدولة فكيف يجري تحقيق زوال الدولة؟ احد الشروط التي تؤدي الى زوال الدولة هو تطور انتاج المواد الاستهلاكية بحيث تكفي لسد حاجة المجتمع كله اليها. يجب ان يتحقق وضع يستطيع كل عضو في المجتمع ان يحصل على ما يحتاجه من المواد الاستهلاكية بكل حرية وبدون مقابل. اذا تحقق ذلك تزول الحاجة الى السرقة مثلا. فالسارق يحتاج الى سرقة ما لا يستطيع الحصول عليه بدونها فاذا توفر لكل عضو في المجتمع الحصول على ما يحتاجه بحرية لا يحتاج الى السرقة. في حلقة في سجن الكوت كنا نتحدث عن الشيوعية سالني احد الحاضرين كيف يمكن توزيع المواد بحرية بدون رقابة ولا يقوم الناس بسرقتها؟ كان هذا السائل من عائلة فلاحية فسألته هل كان لديكم خبز في البيت؟ قال طبعا كل يوم والدتي تخبز الخبز في التنور. فسألته هل فكرت يوما باختلاس قرص خبز لاكله في اليوم التالي؟ فاجاب لا طبعا. وسألته هل كان لديكم كثير من الشوكولاتة؟ فقال لا. فسـألته اذا رأيت قليلا من الشوكولاتة على المائدة هل تفكر باختلاس بعضها لكي تاكله في اليوم التالي؟ فضحك وقال طبعا. قلت له هذه هي نتيجة وجود ما يكفي من المواد لسد حاجة كل عضو من المجتمع. اذا علم كل انسان ان بامكانه ان يحصل على ما يحتاجه بحرية متى احتاج لن يفكر باختلاس منها ما يستعمله في اليوم التالي. ان تحقق ذلك في المجتمع يقضي على الحاجة الى توزيع الانتاج بطريقة بيعها وشرائها بشكل السلعة كما كان قائما في المجتمع الاشتراكي ويلغي الحاجة الى النقود لتحقيق ذلك.
ان توفر ما يكفي من المواد الاستهلاكية لسد حاجة كل عضو من اعضاء المجتمع شرط واحد ولكنه ليس الشرط الوحيد الذي يحقق المجتمع الشيوعي. هناك شروط اخرى يجب ان تتحقق للتحول من المجتمع الاشتراكي الى المجتمع الشيوعي. احد اهم هذه الشروط هو تحول كامل الانتاج الاجتماعي الى مشروع واحد موحد تديره هيئة منتخبة ادارة موحدة منظمة. رأينا ان تنظيم الانتاج لا يمكن تحقيقه في مجتمع تملكه شركات مختلفة تعمل كل منها من اجل زيادة ارباحها ومنافسة الشركات الاخرى. لذا كان الانتاج المنظم على نطاق عام الوحيد في التاريخ المجتمع الاشتراكي في فترة قيادة ستالين ولا تعرف اية حالة مشابهة في العالم اليوم. ولكن الانتاج في الاتحاد السوفييتي الاشتراكي لم يصبح انتاجا واحدا موحدا بل كان الانتاج الزراعي على شكل مزارع تعاونية اشتراكية ولكنها ليست ادارة كاملة للدولة. وان احد شروط تحول المجتمع الاشتراكي الى مجتمع شيوعي هو ان تتحول الزراعة التعاونية الى زراعة دولة. ولم يكن بامكان الدولة ان تحقق هذا الشرط قسريا بل كان عليها ان تحققه بصورة تدريجية. وقد بدأت الحكومة السوفييتية فعلا بتحقيق هذا التحول عن طريق تغيير التبادل عن طريق البيع والشراء بين المزارع التعاونية والدولة الى المقايضة عن طريق اقناع المزارع التعاونية بانها تحصل من الدولة عن طريق المقايضة اكثر مما تحصل عليه من التبادل السلعي. وقد تحقق هذا النوع من التبادل مع بعض المزارع التعاونية المنتجة للمواد الاولية للصناعة. ان اكمال هذا التحول يؤدي الى القضاء نهائيا على اي شكل من اشكال الانتاج السلعي. اذ لا يمكن تحقيق المجتمع الشيوعي مع وجود بقية انتاج سلعي مما يتطلب وجود النقود ايضا. فعند تحقيق القضاء على الانتاج السلعي تنتهي الحاجة الى وجود النقود في المجتمع الشيوعي.
احد ضرورات التحول من المجتمع الاشتراكي الى المجتمع الشيوعي هي القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل الجسمي. يجري هذا عن طريق رفع المستوى الفكري لكل عضو في المجتمع الى مستوى العمل الفكري. في المجتمع الشيوعي ينتهي انقسام المجتمع الى عمال ومثقفين وفلاحين. في هذا المجتمع يصبح كل انسان عضوا في المجتمع الشيوعي. ان القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل الجسمي لا يعني انهاء الفرق بينهما. فالعمل الفكري يبقى عملا فكريا والعمل الجسمي يبقى عملا جسميا. ولكن الفرق هو ان كل عضو في المجتمع يصبح عاملا فكريا وفي نفس الوقت عاملا جسميا. كل عضو في المجتمع يمارس في حياته عملا فكريا ويمارس عملا جسميا في الانتاج الاجتماعي. ما يجري هو القضاء على التناقض بين العمل الفكري والعمل الجسمي وليس القضاء على الفرق بين العمل الفكري والعمل الجسمي. في المجتمع الشيوعي تصبح المساهمة في العمل الجسمي، في الانتاج الاجتماعي، ظاهرة طبيعية لدى كل عضو في المجتمع ويصبح العمل امرا طبيعيا لدى الانسان لا يجري عن طريق الاجبار او المراقبة.
نرى من كل ما تقدم ان زوال الدولة لا يجري بقرار حكومي او حزبي او ارادي وانما يجري عن طريق انتهاء الحاجة الى مؤسسات الدولة. فاذا اختفت جرائم السرقة لا تبقى ثمة حاجة الى المؤسسات التي تكافح السرقة وكذلك في كل الجرائم حيث تزول الحاجة الى مؤسسات الشرطة والمحاكم والسجون والقضاء وكافة مؤسسات الدولة. وقد شرح ستالين كل ذلك في كراسه الاخير بصورة رائعة. ولكن ستالين توقع وضعا اخر ايضا يبقي الحاجة الى مؤسسة من مؤسسات الدولة رغم تحول المجتمع الاشتراكي الى مجتمع شيوعي. فبما ان الاشتراكية تحققت في قطر واحد ويمكن ان يتحول هذا المجتمع الاشتراكي الى مجتمع شيوعي مع بقاء وجود دول امبريالية تسعى الى القضاء على هذا المجتمع قد يحتاج المجتمع الشيوعي الى الحفاظ على مهمة الدفاع عن الوطن الشيوعي. في هذه الحال تبقى الضرورة الى وجود جيش جاهز ومجهز بكل ما يحتاج اليه للدفاع عن المجتمع الشيوعي.
ان زوال الدولة ومؤسساتها لا يعني زوال تنظيم الانتاج الاجتماعي. فقد جرى تنظيم الانتاج الاجتماعي في المجتمع الاشتراكي عن طريق الدولة وقد اثبت هذا التنظيم جدارته في تطوير المجتمع تطويرا جامعا يشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية في برامج السنوات الخمس. وفي المجتمع الشيوعي تبقى الحاجة الى تنظيم الانتاج الاجتماعي تنظيما يضمن تطور المجتمع تطورا متناسبا مستمرا. الفرق هو ان المؤسسة التي تقوم بتنظيم الانتاج ليست دولة بل مؤسسة اجتماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق