الرفيق فوأد النمري
ما يستوجب التفسير والعمل عليه هو الحالة العامة السائدة اليوم في الحركة الشيوعية العالمية وهي حالة الإرتداد عن الشيوعية. وما يدهش المرء حقاً هو بدل أن يخجل المرتدون عن الشيوعية من ارتدادهم كونهم قد ضيعوا في الغالب معظم العمر طوعاً في " أسر" الشيوعية، تراهم يفاخرون بكل وقاحة بارتدادهم فيكثرون من تدبيج المقالات التي تدين الشيوعية بوجه عام بزعم أنها طوباوية لدى بعضهم من أمثال غورباتشوف ويلتسن أو لأنها لاإنسانية لدى غالبيتهم. ولو عَدِم جميعهم هذه الحجة أو تلك لتحججوا باللون الأحمر الذي تفضله الشيوعية، وهو لون الدم، بينما هم يفضلون اللون الأزرق، لون السماء والبحر !! بل إن جميع الأحزاب الشيوعية التي ما زالت قائمة بهياكل هشّة لم تنهرْ بعد تستنكر الشيوعية التي قال بها ماركس ولينين وطبقها ستالين بادعاءات متباينة جلّها يقع في إطار الدكتاتورية والشمولية اللاتعددية. وهكذا غدت الشيوعية مستباحة ومستوجبة الاستنكار طالما أنها انهارت متجسدة بمشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية. هؤلاء المرتدون أشبه بمن راهن على جواد خاسر فلا يعود ينظر إليه كرهاً له بعد أن خسر السباق. هذه ظاهرة تستحق الوقوف عندها بمحاكمة موضوعية طالما كان لها أثر عميق في الفكر السياسي العام وانعكاساته على حركة المجتمع الثقافية والعملاتية بنحوٍ أو بآخر وعلى الحركة الشيوعية بشكل خاص. يبشر البعض من هؤلاء المرتدين بأن الحركة الشيوعية صائرة إلى زوال، وتستبشر الطبقة البورجوازية الوضيعة بهؤلاء خيراً تدعيماً لادعائها الوقح بأن العمل البشري (man-labour) لم يعد العامل الحدي في القيمة الرأسمالية بل هو المعرفة (know-how)، ويرتفع صوتها عالياً يتحدث عما تسميه " إقتصاد المعرفة " . الرأسماليون لم يتحدثوا بمثل هذا الحديث التضليلي الفج حيث أن تجارتهم الوحيدة تتركز في العمل البشري (man-labour) وليس في المعرفة (know-how) . تجارة الرأسماليين تقضي بتوسيع وتعميق طبقة البروليتاريا على العكس من نمط إنتاج البورجوازية الوضيعة المقتصر على الخدمات. تطور إنتاج البورجوازية الوضيعة من الخدمات سعةً وعمقاً ينعكس مباشرة في ضمور طبقة البروليتاريا ومع ذلك يتنادى سقط البورجوازية الوضيعة بين الحين والآخر إلى تنظيم المظاهرات العالمية الكبرى ضد العولمة، وهو ما يشكل إعترافاً منها على أن كلفة إنتاجها من الخدمات لا يتكلف به غير البروليتاريا التي عليها ألا ترحل بعيداً كيما تستمر تدفع من دمها كلفة إنتاج الخدمات.
المتابعة الكثيبة لما يكتبه الشيوعيون المرتدون تبين بكل وضوح أنهم جميعاً تقريباً كانوا من المراهنين على جواد الشيوعية الذي خسر السباق في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات؛ ولذلك تجدهم يتبرؤون منه اليوم ويستنكرونه. لكن بجانب هذه الحقيقة التي تقول فيما تقول بأن جميع هؤلاء الشيوعيين المرتدين والمتبرئين من الشيوعية هم أصلاً من طبقة البورجوازية الوضيعة، ثمة حقيقة أخرى تدل عليها كتاباتهم وهي أنهم جميعاً ودون اشتثناء، في القمة كما في القاعدة، لم يكن لديهم وعي كافٍ في الماركسية. لقد فهم جميعهم خطأً أن انهيار الاتحاد السوفياتي مثّل مباشرة انهيار الماركسية في حين أنه كان البرهان القاطع على صحة الماركسية وكمالها. لقد رأوا بأم العين جواد الشيوعية يخسر السباق لكنهم لم يتحققوا من هوية (الجوكي) راكب الحصان فيما إذا كان شيوعياً أم معادياً للشيوعية. كان قادة الجيش الأحمر بالتواطئ مع نيكيتا خروشتشوف قد أنهوا حياة ستالين واستبدلوه بجوكي آخر هو خروشتشوف الذي لا يعرف ماهية الثورة ولا فنون قيادتها وهو ليس أكثر من أُميّ في علوم الماركسية. الجواد الخاسر هو الجواد الشبيه وعلى ظهره جوكي معادٍ للشيوعية وليس الجواد الشيوعي الأصيل الذي يركبه فارسه الأصيل والذي برهن مراراً وتكراراً أنه الرابح في جميع السباقات. لكن ثمة رذيلة بورجوازية في الانسان لا تدعه يتراجع عن استنكاره، كما الشيوعي المستنكر الذي يتصرف كما العذراء التي فقدت عذريتها. ومثلهم تروتسكي الذي ادّعى أمام الفيلسوف الأميركي جون ديوي في محاكمته الصورية في المكسيك 1937 ـ المحاكمة التي رفض حضورها آنشتاين استنكاراً لها ـ إدعى أن كل الخطط التي طبقها ستالين في الاصلاح الزراعي وفي التصنيع الكثيف تعود إليه كان قد سرق ستالين مخطوطاتها من أرشيفه !! لئن كان الأمر كذلك فلما الغضب والهجوم على ستالين وسياساته؟ لما لا يعود تروتسكي الشيوعي فعلاً إلى موسكو ليشكر ستالين على تطبيق سياساته ويعمل معه يداً بيد !!؟ ـ رذالة البورجوازية الوضيعة تمنعه دون الرجوع إلا زعيماً أعلى وإلى جهنم بالبروليتاريا وبالشيوعية وبئس المصير.
في أطروحته " ما العمل " 1902 أكد لينين أن الوعي الديموقراطي الاجتماعي (الطبقي) لا ينمو ويتطور ذاتياً بين العمال، ولذلك كان أن تمّ استيراده من خارج الطبقة العاملة. وعليه صنّف لينين كارل ماركس وفردريك إنجلز على أنهما من شريحة المثقفين البورجوازيين. كارل ماركس وفردريك إنجلز صاغا نظرية الطبقة العاملة غير أن المثقفين الروس، بليخانوف، لينين، مارتوف وإكسلرود، هم الذين أقاموا منظمات عمالية روسية تستتند إلى النظرية الماركسية الثورية والتي تقدمت حتى تأسيس دولة اشتراكية كبرى للعمال هي الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، والمثقفون هم دائماً وأبداً من طبقة البورجوازية الوضيعة.
أهم أداة من أدوات المراجعة النقدية لتاريخ المشروع اللينيني هي عدم التغافل عن الأصول الطبقية لقادة البلاشفة، ناهيك عن المناشفة، منذ تأسيس الحزب باسم حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا عام 1898 وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي وكذلك الحزب الشيوعي في العام 1991. أصولهم جميعاً دون استثناء كانت من البورجوازية الوضيعة. لم يتطهر منهم جميعاً من الروح البورجوازية بكل مواريثها البائسة سوى القائدين التاريخيين لينين وستالين. جميع القادة الذين مضوا كتروتسكي وبوخارين وروكوف وكامينيف وزينوفييف، والذين لحقوا كمولوتوف ومالنكوف وفورشيلوف وخروشتشوف وبيريا وبولغانين، ناهيك عن بريجينيف وأندروبوف وغورباتشوف، جميع هؤلاء لم يتطهروا من الروح البورجوازية الوضيعة. فالبولشفي العريق مولوتوف وكان أكثرهم إخلاصاً ومستعداً لأن يفتدي الحزب بروحه لكنه كان مع ذلك يحب زوجته أكثر مما يحب الحزب كما أشار ستالين، وهذا من دلالات الروح البورجوازية الوضيعة. ليس سهلاً حتى على المناضلين الذين قارعو البورجوازية في الصفوف الأولى للطبقة العاملة ودخلوا السجون والمعتقلات بل وضحوا بأغلى ما يملكون، ليس سهلاً عليهم أن يتطهروا من الروح البورجوازية الوضيعة التي سكنت الجنس البشري آلاف السنين ـ لنأخذ مثالاً على ذلك نيكيتا خروشتشوف، وكانت قضية الشيوعية لديه قضية مصير حارب من أجلها في الحرب الأهلية وحروب التدخل 1917 ـ 1921 ثم خاض الحرب الوطنية في كبرى معاركها ضد النازية 1941 ـ 1945، وقام بكل الوظائف الموكولة إليه على الوجه الأفضل، هذا القائد الشيوعي المقدام رضي لنفسه أخيراً أن يتآمر مع جنرالات الجيش من أجل أن يكون الرجل الأول على رأس الهرم السلطوي في الاتحاد السوفياتي، وكان ثمن ذلك إلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب بقرار من اللجنة المركزية في سبتمبر ايلول 1953 ظنا منه أن قراراً مثل ذلك القرار لن يأتي على مستقبل الشيوعية وهو ما تحقق من ذلك فقط في العام 1964 حين أطاح به نفس الجنرالات الذين كانوا قد حملوه إلى القمة في العام 53.
من هنا عندما خاطب ستالين هيئة المندوبين لمؤتمر الحزب التاسع عشر للحزب الشيوعي في نوفمبر 1952 قائلاً.." ليس هؤلاء من سيوصلونكم إلى الشيوعية "، مشيراً إلى رفاقه في البريزيديوم على المنصة، كان يعني بالضبط أن أعضاء البريزيديوم الأحد عشر الباقين ليسوا أمناء على مصائر المشروع اللينيني. لذلك طالب بانتخاب 12 عضوا إضافياً من الشباب المتحمسين لقضية الشيوعية كي يكون عدد أعضاء البريزيديوم 24 وليس 12 فقط توفيراً لضمانةً أقوى لمصائر الثورة. وهكذا كان انهيار الثورة الاشتراكية احتمالاً وارداً لدى ستالين في حين أن مثل ذلك الاحتمال لم يكن وارداً عند أي شخص آخر في العالم بمن في ذلك الأعداء.. انتخب المؤتمر 12 عضواً إضافياً لكن البريزيديوم الاثني عشر ـ بل الأحد عشر بعد وفاة ستالين ـ في اجتماعه الخياني قبل أن يوارى ستالين الثرى ألغى ذلك القرار توطئة لإلغاء مجموع قرارات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب. ما كانت اللجنة المركزية لتلغي تلك القرارات في اجتماعها في سبتمبر ايلول 53 لو انضم الأعضاء الاثناعشر الإضافيون للبريزيديوم. قرار سبتمبر ايلول 53 هو ما انتهى إلى تدمير المشروع اللينيني وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991. وهذه هي الحقيقة التي أوّلَها العامة فيما بعد على أن الاتحاد السوفياتي استنفذ نفسه في سباق التسلح حيث أن مقررات مؤتمر الحزب الملغاة كانت ضد التسلح وقد خصصت معظم موارد الدولة للصناعات الاستهلاكية ولرفاه الشعب وهو ما لا يرضاه العسكر بالطبع الذين تفاهموا مع خروشتشوف لاستبدال الصناعات الخفيفة بالصناعات الثقيلة والهدف كان الصناعات العسكرية.
الرِدّة، وقد غدت اليوم الحالة العامة في الحركة الشيوعية، إنما تتأتّى أولاً وأخيراً من الجين الوراثي للأصول البورجوازية الوضيعة، ذلك الجين الذي يظل يعمل في الشيوعي ذي الأصول البورجوازية الوضيعة بغض النظر عن كل الشروط الصعبة لمعارك الصراع الطبقي التي يخوضها. الشيوعي ذو الأصول البروليتارية يخوض مختلف معارك الصراع الطبقي دفاعاً عن الذات البروليتارية خلافاً للشيوعي ذي الأصول البورجوازية الوضيعة الذي يخوض معارك الشيوعيين انتصاراً للآخر، للطبقة المعادية لطبقته في الأصل، وهو الذي تبنته البروليتاريا رغم أن جيناته الوراثية ليست من جينات البروليتاريا.
الجين الوراثي للأصول البورجوازية الوضيعة لا يعطل فعله سوى الوعي الاجتماعي، الاقتصادي السياسي، وهو في إحياءٍ يومي دون توقف. الشيوعيون الذين ارتدّوا جهاراً والشيوعيون الذين ارتدوا فعلياً دون الجهر بالردة من مثل " الشيوعيين " في الهياكل الهشة التي ما زالت قائمة لأحزاب الأممية الثالثة بالرغم من أن أسباب قيام الأممية الثالثة لم تعد قائمة، هؤلاء وأولئك لم يمتلكوا من الوعي الماركسي ما يكفي لاتقاء بؤس الإرتداد. ارتدوا وباتوا يرطنون رطانات لا دلالات لها في مجتمعاتهم. وكيلا تعاب عليهم مثل تلك الرطانات المعيبة في كل اللغات لجأوا إلى تبني خطاب المخابرات الانجليزية القديم الذي يطعن بشرف البلاشفة وعلى رأسهم ستالين. لم يعد في أفواههم سوى تفوهات المخابرات الانجليزية التي كانت تستغل جهل شعوب الشرق بالثورة البلشفية وبقادتها فتقص عليها قصصاً من نسج الحقد والكذب الوقح. لإفلاس هؤلاء المرتدين في تبرير ارتدادهم يلجؤون إلى استعارة خطاب المخابرات الانجليزية القديم في شتم البلاشفة وتجريم ستالين بدون أدنى مسوغات، باطلها يختزي به البطلان. من هنا فقط تتعالى اليوم الحملة على ستالين بالرغم من مرور 60 عاماً على رحيله، الأمر الذي ليس له من تفسير سوى جوف هؤلاء المرتدين وإفلاسهم بالإضافة إلى عظمة ستالين القاهرة. شعوب اليوم لم تعد تعيش في ظلمات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي فهي تقرأ التاريخ الحديث بكل تفاصيله وتعرف جيداً أن البلاشفة بقيادة ستالين بنوا للعمال أقوى دولة عبر التاريخ، دولة أقامت أسس الحرية والديموقراطية في العالم، حيث لولاها لقبض النازيون على مقاليد الأمور في العالم كله لألف عام واستعبدوا مختلف الشعوب كما عبيد روما. ولولاها لما تفجرت ثورة التحرر الوطني في العالم وحصلت مختلف الدول المحيطية على استقلالها الأمر الذي تسبب بانهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي من أساسه إلى غير رجعة. ليرجعْ مثل هؤلاء المرتدين الخونة إلى الصحافة الأميركية والبريطانية خلال سنوات الحرب الصعبة وكيف كانت تعتبر الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين منقذها ومخلصها من أنياب الغول النازي الفاشي في ألمانيا وإيطاليا واليايان. فحين كان ملك بريطانيا العظمى ورئيس وزرائها يؤكدان امتنان شعوب بريطانيا مدى الحياة لشعوب الاتحاد السوفياتي وقائدها ستالين، كان الشعب الأميركي وعلى رأسه ترومان يعلم تماماً أنه بدون المساعدة السوفياتية الحربية لن تستطيع الولايات المتحدة قهر العسكرية اليابانية. هذه هي الحقيقة التي أراد ترومان أن يمحوها من ذاكرة الشعب الأميركي بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي اللتين لم يكن لهما أثر حاسم في الحرب.
توقف قلب ستالين عن الخفقان في الساعة التاسعة والنصف من مساء اليوم الخامس من مارس آذار 1953 وبعد أقل من إثنتي عشرة ساعة، عقد البريزيديوم، الأحد عشري بعد غياب ستالين، جلسة في صباح اليوم التالي قرر فيها إلغاء قرار المؤتمر العام للحزب الذي اتخذه قبل أربعة أشهر فقط بتوصية من ستالين والقاضي بتوسيع البريزيديوم ليكون من 24 عضواً. بعيداً عن الشكوك في أمر وفاة ستالين المفاجئة، فإن الاستعجال في اتخاذ البريزيديوم قراراً بإلغاء توسيع البريزيديوم ليضم 24 عضواً الصادر عن المؤتمر العام للحزب تفوح منه رائحة الخيانة، خليك عن أن قرارات المؤتمر العام للحزب واجبة التطبيق ولا يلغيها سوى مؤتمر عام آخر. كان المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في نوفمبر 52 قد سمّى 12 عضواً إضافياً بناء على طلب ستالين لخشيته على مصير الثورة بين أيدي الأحد عشر عجوزاً الأقدمين. بقاء البريزيديوم على ما كان عليه يعني وكما أشار ستالين المخاطرة بمصير الثورة، كما يعني أيضاً دون شك أن بريزيديوم العواجيز ينوي اتخاذ قرارات لا يقبل بها ستالين ولا الأعضاء الإثناعشر المستجدون. بالفعل اقترف بريزيديوم العواجيز الخيانة العظمى التي ستظل مثال الخيانة العظمى مدى التاريخ. لقد دعا البريزيديوم الأحد عشري اللجنة المركزية للانعقاد في سبتمبر ايلول 53 حيث اتخذت قرارا بإلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر بالإضافة إلى تنحية مالنكوف ليحل محله خروشتشوف المتعاون مع جنرالات الجيش. ما من خيانة مفضوحة أخرى مثل هذه الخيانة!! فليس للجنة المركزية أية سلطة تخولها إلغاء أو تجاوز مقررات الهيئة العامة للحزب، بل إن اللجنة المركزية منتخبة أساساً لتنفيذ مقررات المؤتمر العام لا أكثر ولا أقل. وثمة شكوك في شرعية دعوة اللجنة المركزية للإنعقاد حيث تُدعى اللجنة المركزية للإنعقاد للبحث في موضوع واحد محدد في الدعوة نفسها ويستبعد أن تكون تلك الدعوة قد حددت موضوع البحث الذي تركّز في إلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي.
ألغى ذلك الاجتماع الخياني الخطة الخمسية التي أقرها المؤتمر التاسع عشر والتي قضت بتوجيه الانتاج العام نحو الصناعات الاستهلاكية الخفيفة مستهدفة رفع مستوى حياة البروليتاريا السوفياتية إلى ما لا يوازية أرقى مستوى في أغنى الدول. لقد عرف ستالين ما عكسته القوى العسكرية السوفياتية في مواجهتها للعسكرية النازية الضخمة على مختلف الشعوب وخاصة في أوروبا الغربية وهو ما أثر في انزياحها إلى اليسار باعتراف شيرتشل في مؤتمر يالطا 45، وعليه كان هدف ستالين أن يحقق قفزة عريضة في عبور الاشتراكية كي ترى شعوب العالم وفي أوروبا الغربية تحديداً أن النظام الاشتراكي مؤهل أيضاً ليحقق تفوقاً في القدرات المدنية لما يفوق قدراته العسكرية. كان الحزب الشيوعي بقيادة ستالين يتأهب في العام 1952 لتحقيق أعظم ثورة اشتراكية في السنوات الخمس التالية، ثورة تصل إلى عتبة الشيوعية حيث تنعم البروليتاريا برغد لم يسبق للبشرية أن عرفت مثله. كان سيتم عبور الاشتراكية بصورة قاطعة غير قابلة للرجوع. لذلك تحديداً وجهت البورجوازية الوضيعة ضربتها القاضية لرأس الثورة الاشتراكية في الوقت الحرج فنجحت في ترحيل ستالين عن طريق تسميمه في الأول من مارس آذار 1953 وإلغاء كامل مقررات الهيئة العامة للحزب في سبتمبر ايلول من نفس العام. الانحراف الذي انحرفته قيادة الحزب في العام 1953 كان لا بد أن ينتهي بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كما بانهيار استقلال دول العالم الثالث بالتبعية.
يتجاوز المرتدون عن الشيوعية وقائع التاريخ حتى أكبرها وهي الحرب العالمية الثانية ليزعموا أن انهيار الاتحاد السوفياتي إنما جاء بسبب الستالينية رغم أن هؤلاء المرتدين أنفسهم لم يكن الانهيار في حسبانهم. لا يجوز أن تصل الوقاحة بهؤلاء لأن يزعموا بأن الانهيار جاء بسبب الستالينية بينما ستالين نفسه كان قد حذر من الانهيار قبل وقوعه بنصف قرن. بل إن لينين كان قد حذر من الانهيار في ديسمبر 1922 في حالة انفكاك التحالف بين العمال والفلاحين (الخطة الخمسية 52 – 56 كانت ترمي لمحو طبقة الفلاحين). في العام 1963 ولدى قراءتي في السجن تقرير خروشتشوف للمؤتمر العام الثاني والعشرين للحزب 1961 وفيه يؤكد بزوغ فجر الشيوعية في العام 1990، أكدت للرفاق معي في السجن أن الاتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990. استشرافي الانهيار الذي تحقق بعد ثلاثة عقود لم يكن إلا بقراءة ستالينية لتقرير خروششوف للمؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي. نحن اللينيين وعلى رأسنا معلمنا البولشفي يوسف ستالين كنا ندرك خطورة الصراع الطبقي على المشروع اللينيني ونتوجس خيفة من الانهيار، فكيف يُعزى الانهيار والحالة هذه إلى الستالينية!؟
مثقفو البورجوازية الوضيعة الذين كانوا قد ورّدوا الماركسية، نظرية الطبقة العاملة، إلى داخل الطبقة العاملة عادوا يسحبونها اليوم إلى خارج صفوف البروليتاريا. صحيح أن ارتداد المثقفين وتشويههم للماركسية عن قصد وغير قصد لأجل سحبها إلى خارج البروليتاريا إنما سببه الأساسي هو الجين البورجوازي الموروث في المثقفين المتمركسين، لكنه صحيح أيضاً أن هؤلاء المثقفين لم يمتلكوا الوعي الكافي لتعطيل أثر الجينات البورجوازية في طموحاتهم الذاتية. ما كان قد حدا بهؤلاء المثقفين إلى الإنضمام إلى معسكر البروليتاريا وحتى إطلاق النار على جبهة آبائهم البورجوازية إنما هو قوى التعقل في أبنية الماركسية الفلسفية والإقتصادية والسياسية. علوم الماركسية هي وحدها التي تمكنت من نقل الفلسفة والتاريخ من دائرة الآداب إلى دائرة العلوم. راهنت جيوش المثقفين الجرارة من البورجوازية الوضيعة على جواد الماركسية ليس لسبب آخر غير قوة بنية الجواد التي تؤهله لأن يسبق كل الجياد الأخرى. راهنت كي تكسب هي نفسها قبل أن تكسب البروليتاريا.
نحن هنا في سياق تعليل ردّة مثقفي البورجوازية الوضيعة على الشيوعية بصورة عامة وفك رهانهم على جواد الماركسية منسحبين كليّاً من جبهة البروليتاريا عائدين أدراجهم إلى حيث هم كانوا قد تخلّقوا أصلاً في مستنبت البورجوازية الوضيعة، نحن هنا لنقول أن ذلك لم يكن بسبب الجين البورجوازي الموروث فقط والذي استعاد حيويته إثر انهيار المعسكر الاشتراكي، بل أيضاً بسبب جهل هؤلاء المثقفين بأسباب قوة جواد الماركسية. إنجذب هؤلاء إلى الماركسية وتبنوها مرشداً لهم لكن من دون أن يتعمقوا في دراسة علومها. جهلهم هذا تفضحه كتاباتهم الارتدادية التي تثير الاستغراب من ماركسية هؤلاء البورجوازيين. كيف لمن يشط مثل هذا الشطط أن يدعي بأنه كان يوماً ماركسياً !؟ الماركسية ليس خياراً، إمّا أن يكون المرء ماركسياً أو لا يكون ! الماركسية علم تواجد قسمه الاجتماعي منذ ظهور المجتمعات البشرية على الأرض، وقسمه الفلسفي (الديالكتيك) منذ الأزل. أولئك الذين يرفضون الماركسية بسبب ضيق الأفق أو الموقف الرجعي عليهم أن يعلموا أنهم هم أنفسهم خاضعون لقوانين الطبيعة ولقوانين المجتمع كذلك، وهذه وتلك تشكل سقوف البنيان الماركسي حيث يستظل هؤلاء الرافضون مرغمين. الماركسية إنما هي قوانين الطبيعة وقوانين الحياة وما إنكار قوانين الطبيعة والحياة غير الكفر المطلق بقيمة الحياة البشرية.
بقي أن أقول أن ما يعضد هؤلاء المرتدين على الماركسية هو قيام بعض الأدعياء بعرض "ماركسياتهم" الفائقة الرثاثة فيما يوفره الحوار المتمدن من مساحات للكتابة لمثل هؤلاء الأدعياء الذين توفر أميتهم السياسية والمعرفية سلاحاً ماضياً تجيد البورجوازية الوضيعة استخدامه ضد العمل الشيوعي. من واجبي أن أسمي هؤلاء الأدعياء بالاسم خدمة للعمل الشيوعي إلا أن قواعد النشر في الحوار تحول دون ذلك كما أن ألسنة السوء لدى هؤلاء الأدعياء طويلة ولن توفر محرّماً لا تقترفه. الماركسية ليست مثل طوابع البريد يجمعها الهواة في انطباعات منفصلة كي يدعوا بالتالي العلم في الماركسية وهم خواة جوف كالطبل يعلو صوته أكثر كلما كبر جوفه وازداد خواءً.
ما يستوجب التفسير والعمل عليه هو الحالة العامة السائدة اليوم في الحركة الشيوعية العالمية وهي حالة الإرتداد عن الشيوعية. وما يدهش المرء حقاً هو بدل أن يخجل المرتدون عن الشيوعية من ارتدادهم كونهم قد ضيعوا في الغالب معظم العمر طوعاً في " أسر" الشيوعية، تراهم يفاخرون بكل وقاحة بارتدادهم فيكثرون من تدبيج المقالات التي تدين الشيوعية بوجه عام بزعم أنها طوباوية لدى بعضهم من أمثال غورباتشوف ويلتسن أو لأنها لاإنسانية لدى غالبيتهم. ولو عَدِم جميعهم هذه الحجة أو تلك لتحججوا باللون الأحمر الذي تفضله الشيوعية، وهو لون الدم، بينما هم يفضلون اللون الأزرق، لون السماء والبحر !! بل إن جميع الأحزاب الشيوعية التي ما زالت قائمة بهياكل هشّة لم تنهرْ بعد تستنكر الشيوعية التي قال بها ماركس ولينين وطبقها ستالين بادعاءات متباينة جلّها يقع في إطار الدكتاتورية والشمولية اللاتعددية. وهكذا غدت الشيوعية مستباحة ومستوجبة الاستنكار طالما أنها انهارت متجسدة بمشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية. هؤلاء المرتدون أشبه بمن راهن على جواد خاسر فلا يعود ينظر إليه كرهاً له بعد أن خسر السباق. هذه ظاهرة تستحق الوقوف عندها بمحاكمة موضوعية طالما كان لها أثر عميق في الفكر السياسي العام وانعكاساته على حركة المجتمع الثقافية والعملاتية بنحوٍ أو بآخر وعلى الحركة الشيوعية بشكل خاص. يبشر البعض من هؤلاء المرتدين بأن الحركة الشيوعية صائرة إلى زوال، وتستبشر الطبقة البورجوازية الوضيعة بهؤلاء خيراً تدعيماً لادعائها الوقح بأن العمل البشري (man-labour) لم يعد العامل الحدي في القيمة الرأسمالية بل هو المعرفة (know-how)، ويرتفع صوتها عالياً يتحدث عما تسميه " إقتصاد المعرفة " . الرأسماليون لم يتحدثوا بمثل هذا الحديث التضليلي الفج حيث أن تجارتهم الوحيدة تتركز في العمل البشري (man-labour) وليس في المعرفة (know-how) . تجارة الرأسماليين تقضي بتوسيع وتعميق طبقة البروليتاريا على العكس من نمط إنتاج البورجوازية الوضيعة المقتصر على الخدمات. تطور إنتاج البورجوازية الوضيعة من الخدمات سعةً وعمقاً ينعكس مباشرة في ضمور طبقة البروليتاريا ومع ذلك يتنادى سقط البورجوازية الوضيعة بين الحين والآخر إلى تنظيم المظاهرات العالمية الكبرى ضد العولمة، وهو ما يشكل إعترافاً منها على أن كلفة إنتاجها من الخدمات لا يتكلف به غير البروليتاريا التي عليها ألا ترحل بعيداً كيما تستمر تدفع من دمها كلفة إنتاج الخدمات.
المتابعة الكثيبة لما يكتبه الشيوعيون المرتدون تبين بكل وضوح أنهم جميعاً تقريباً كانوا من المراهنين على جواد الشيوعية الذي خسر السباق في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات؛ ولذلك تجدهم يتبرؤون منه اليوم ويستنكرونه. لكن بجانب هذه الحقيقة التي تقول فيما تقول بأن جميع هؤلاء الشيوعيين المرتدين والمتبرئين من الشيوعية هم أصلاً من طبقة البورجوازية الوضيعة، ثمة حقيقة أخرى تدل عليها كتاباتهم وهي أنهم جميعاً ودون اشتثناء، في القمة كما في القاعدة، لم يكن لديهم وعي كافٍ في الماركسية. لقد فهم جميعهم خطأً أن انهيار الاتحاد السوفياتي مثّل مباشرة انهيار الماركسية في حين أنه كان البرهان القاطع على صحة الماركسية وكمالها. لقد رأوا بأم العين جواد الشيوعية يخسر السباق لكنهم لم يتحققوا من هوية (الجوكي) راكب الحصان فيما إذا كان شيوعياً أم معادياً للشيوعية. كان قادة الجيش الأحمر بالتواطئ مع نيكيتا خروشتشوف قد أنهوا حياة ستالين واستبدلوه بجوكي آخر هو خروشتشوف الذي لا يعرف ماهية الثورة ولا فنون قيادتها وهو ليس أكثر من أُميّ في علوم الماركسية. الجواد الخاسر هو الجواد الشبيه وعلى ظهره جوكي معادٍ للشيوعية وليس الجواد الشيوعي الأصيل الذي يركبه فارسه الأصيل والذي برهن مراراً وتكراراً أنه الرابح في جميع السباقات. لكن ثمة رذيلة بورجوازية في الانسان لا تدعه يتراجع عن استنكاره، كما الشيوعي المستنكر الذي يتصرف كما العذراء التي فقدت عذريتها. ومثلهم تروتسكي الذي ادّعى أمام الفيلسوف الأميركي جون ديوي في محاكمته الصورية في المكسيك 1937 ـ المحاكمة التي رفض حضورها آنشتاين استنكاراً لها ـ إدعى أن كل الخطط التي طبقها ستالين في الاصلاح الزراعي وفي التصنيع الكثيف تعود إليه كان قد سرق ستالين مخطوطاتها من أرشيفه !! لئن كان الأمر كذلك فلما الغضب والهجوم على ستالين وسياساته؟ لما لا يعود تروتسكي الشيوعي فعلاً إلى موسكو ليشكر ستالين على تطبيق سياساته ويعمل معه يداً بيد !!؟ ـ رذالة البورجوازية الوضيعة تمنعه دون الرجوع إلا زعيماً أعلى وإلى جهنم بالبروليتاريا وبالشيوعية وبئس المصير.
في أطروحته " ما العمل " 1902 أكد لينين أن الوعي الديموقراطي الاجتماعي (الطبقي) لا ينمو ويتطور ذاتياً بين العمال، ولذلك كان أن تمّ استيراده من خارج الطبقة العاملة. وعليه صنّف لينين كارل ماركس وفردريك إنجلز على أنهما من شريحة المثقفين البورجوازيين. كارل ماركس وفردريك إنجلز صاغا نظرية الطبقة العاملة غير أن المثقفين الروس، بليخانوف، لينين، مارتوف وإكسلرود، هم الذين أقاموا منظمات عمالية روسية تستتند إلى النظرية الماركسية الثورية والتي تقدمت حتى تأسيس دولة اشتراكية كبرى للعمال هي الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، والمثقفون هم دائماً وأبداً من طبقة البورجوازية الوضيعة.
أهم أداة من أدوات المراجعة النقدية لتاريخ المشروع اللينيني هي عدم التغافل عن الأصول الطبقية لقادة البلاشفة، ناهيك عن المناشفة، منذ تأسيس الحزب باسم حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا عام 1898 وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي وكذلك الحزب الشيوعي في العام 1991. أصولهم جميعاً دون استثناء كانت من البورجوازية الوضيعة. لم يتطهر منهم جميعاً من الروح البورجوازية بكل مواريثها البائسة سوى القائدين التاريخيين لينين وستالين. جميع القادة الذين مضوا كتروتسكي وبوخارين وروكوف وكامينيف وزينوفييف، والذين لحقوا كمولوتوف ومالنكوف وفورشيلوف وخروشتشوف وبيريا وبولغانين، ناهيك عن بريجينيف وأندروبوف وغورباتشوف، جميع هؤلاء لم يتطهروا من الروح البورجوازية الوضيعة. فالبولشفي العريق مولوتوف وكان أكثرهم إخلاصاً ومستعداً لأن يفتدي الحزب بروحه لكنه كان مع ذلك يحب زوجته أكثر مما يحب الحزب كما أشار ستالين، وهذا من دلالات الروح البورجوازية الوضيعة. ليس سهلاً حتى على المناضلين الذين قارعو البورجوازية في الصفوف الأولى للطبقة العاملة ودخلوا السجون والمعتقلات بل وضحوا بأغلى ما يملكون، ليس سهلاً عليهم أن يتطهروا من الروح البورجوازية الوضيعة التي سكنت الجنس البشري آلاف السنين ـ لنأخذ مثالاً على ذلك نيكيتا خروشتشوف، وكانت قضية الشيوعية لديه قضية مصير حارب من أجلها في الحرب الأهلية وحروب التدخل 1917 ـ 1921 ثم خاض الحرب الوطنية في كبرى معاركها ضد النازية 1941 ـ 1945، وقام بكل الوظائف الموكولة إليه على الوجه الأفضل، هذا القائد الشيوعي المقدام رضي لنفسه أخيراً أن يتآمر مع جنرالات الجيش من أجل أن يكون الرجل الأول على رأس الهرم السلطوي في الاتحاد السوفياتي، وكان ثمن ذلك إلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب بقرار من اللجنة المركزية في سبتمبر ايلول 1953 ظنا منه أن قراراً مثل ذلك القرار لن يأتي على مستقبل الشيوعية وهو ما تحقق من ذلك فقط في العام 1964 حين أطاح به نفس الجنرالات الذين كانوا قد حملوه إلى القمة في العام 53.
من هنا عندما خاطب ستالين هيئة المندوبين لمؤتمر الحزب التاسع عشر للحزب الشيوعي في نوفمبر 1952 قائلاً.." ليس هؤلاء من سيوصلونكم إلى الشيوعية "، مشيراً إلى رفاقه في البريزيديوم على المنصة، كان يعني بالضبط أن أعضاء البريزيديوم الأحد عشر الباقين ليسوا أمناء على مصائر المشروع اللينيني. لذلك طالب بانتخاب 12 عضوا إضافياً من الشباب المتحمسين لقضية الشيوعية كي يكون عدد أعضاء البريزيديوم 24 وليس 12 فقط توفيراً لضمانةً أقوى لمصائر الثورة. وهكذا كان انهيار الثورة الاشتراكية احتمالاً وارداً لدى ستالين في حين أن مثل ذلك الاحتمال لم يكن وارداً عند أي شخص آخر في العالم بمن في ذلك الأعداء.. انتخب المؤتمر 12 عضواً إضافياً لكن البريزيديوم الاثني عشر ـ بل الأحد عشر بعد وفاة ستالين ـ في اجتماعه الخياني قبل أن يوارى ستالين الثرى ألغى ذلك القرار توطئة لإلغاء مجموع قرارات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب. ما كانت اللجنة المركزية لتلغي تلك القرارات في اجتماعها في سبتمبر ايلول 53 لو انضم الأعضاء الاثناعشر الإضافيون للبريزيديوم. قرار سبتمبر ايلول 53 هو ما انتهى إلى تدمير المشروع اللينيني وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991. وهذه هي الحقيقة التي أوّلَها العامة فيما بعد على أن الاتحاد السوفياتي استنفذ نفسه في سباق التسلح حيث أن مقررات مؤتمر الحزب الملغاة كانت ضد التسلح وقد خصصت معظم موارد الدولة للصناعات الاستهلاكية ولرفاه الشعب وهو ما لا يرضاه العسكر بالطبع الذين تفاهموا مع خروشتشوف لاستبدال الصناعات الخفيفة بالصناعات الثقيلة والهدف كان الصناعات العسكرية.
الرِدّة، وقد غدت اليوم الحالة العامة في الحركة الشيوعية، إنما تتأتّى أولاً وأخيراً من الجين الوراثي للأصول البورجوازية الوضيعة، ذلك الجين الذي يظل يعمل في الشيوعي ذي الأصول البورجوازية الوضيعة بغض النظر عن كل الشروط الصعبة لمعارك الصراع الطبقي التي يخوضها. الشيوعي ذو الأصول البروليتارية يخوض مختلف معارك الصراع الطبقي دفاعاً عن الذات البروليتارية خلافاً للشيوعي ذي الأصول البورجوازية الوضيعة الذي يخوض معارك الشيوعيين انتصاراً للآخر، للطبقة المعادية لطبقته في الأصل، وهو الذي تبنته البروليتاريا رغم أن جيناته الوراثية ليست من جينات البروليتاريا.
الجين الوراثي للأصول البورجوازية الوضيعة لا يعطل فعله سوى الوعي الاجتماعي، الاقتصادي السياسي، وهو في إحياءٍ يومي دون توقف. الشيوعيون الذين ارتدّوا جهاراً والشيوعيون الذين ارتدوا فعلياً دون الجهر بالردة من مثل " الشيوعيين " في الهياكل الهشة التي ما زالت قائمة لأحزاب الأممية الثالثة بالرغم من أن أسباب قيام الأممية الثالثة لم تعد قائمة، هؤلاء وأولئك لم يمتلكوا من الوعي الماركسي ما يكفي لاتقاء بؤس الإرتداد. ارتدوا وباتوا يرطنون رطانات لا دلالات لها في مجتمعاتهم. وكيلا تعاب عليهم مثل تلك الرطانات المعيبة في كل اللغات لجأوا إلى تبني خطاب المخابرات الانجليزية القديم الذي يطعن بشرف البلاشفة وعلى رأسهم ستالين. لم يعد في أفواههم سوى تفوهات المخابرات الانجليزية التي كانت تستغل جهل شعوب الشرق بالثورة البلشفية وبقادتها فتقص عليها قصصاً من نسج الحقد والكذب الوقح. لإفلاس هؤلاء المرتدين في تبرير ارتدادهم يلجؤون إلى استعارة خطاب المخابرات الانجليزية القديم في شتم البلاشفة وتجريم ستالين بدون أدنى مسوغات، باطلها يختزي به البطلان. من هنا فقط تتعالى اليوم الحملة على ستالين بالرغم من مرور 60 عاماً على رحيله، الأمر الذي ليس له من تفسير سوى جوف هؤلاء المرتدين وإفلاسهم بالإضافة إلى عظمة ستالين القاهرة. شعوب اليوم لم تعد تعيش في ظلمات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي فهي تقرأ التاريخ الحديث بكل تفاصيله وتعرف جيداً أن البلاشفة بقيادة ستالين بنوا للعمال أقوى دولة عبر التاريخ، دولة أقامت أسس الحرية والديموقراطية في العالم، حيث لولاها لقبض النازيون على مقاليد الأمور في العالم كله لألف عام واستعبدوا مختلف الشعوب كما عبيد روما. ولولاها لما تفجرت ثورة التحرر الوطني في العالم وحصلت مختلف الدول المحيطية على استقلالها الأمر الذي تسبب بانهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي من أساسه إلى غير رجعة. ليرجعْ مثل هؤلاء المرتدين الخونة إلى الصحافة الأميركية والبريطانية خلال سنوات الحرب الصعبة وكيف كانت تعتبر الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين منقذها ومخلصها من أنياب الغول النازي الفاشي في ألمانيا وإيطاليا واليايان. فحين كان ملك بريطانيا العظمى ورئيس وزرائها يؤكدان امتنان شعوب بريطانيا مدى الحياة لشعوب الاتحاد السوفياتي وقائدها ستالين، كان الشعب الأميركي وعلى رأسه ترومان يعلم تماماً أنه بدون المساعدة السوفياتية الحربية لن تستطيع الولايات المتحدة قهر العسكرية اليابانية. هذه هي الحقيقة التي أراد ترومان أن يمحوها من ذاكرة الشعب الأميركي بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي اللتين لم يكن لهما أثر حاسم في الحرب.
توقف قلب ستالين عن الخفقان في الساعة التاسعة والنصف من مساء اليوم الخامس من مارس آذار 1953 وبعد أقل من إثنتي عشرة ساعة، عقد البريزيديوم، الأحد عشري بعد غياب ستالين، جلسة في صباح اليوم التالي قرر فيها إلغاء قرار المؤتمر العام للحزب الذي اتخذه قبل أربعة أشهر فقط بتوصية من ستالين والقاضي بتوسيع البريزيديوم ليكون من 24 عضواً. بعيداً عن الشكوك في أمر وفاة ستالين المفاجئة، فإن الاستعجال في اتخاذ البريزيديوم قراراً بإلغاء توسيع البريزيديوم ليضم 24 عضواً الصادر عن المؤتمر العام للحزب تفوح منه رائحة الخيانة، خليك عن أن قرارات المؤتمر العام للحزب واجبة التطبيق ولا يلغيها سوى مؤتمر عام آخر. كان المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في نوفمبر 52 قد سمّى 12 عضواً إضافياً بناء على طلب ستالين لخشيته على مصير الثورة بين أيدي الأحد عشر عجوزاً الأقدمين. بقاء البريزيديوم على ما كان عليه يعني وكما أشار ستالين المخاطرة بمصير الثورة، كما يعني أيضاً دون شك أن بريزيديوم العواجيز ينوي اتخاذ قرارات لا يقبل بها ستالين ولا الأعضاء الإثناعشر المستجدون. بالفعل اقترف بريزيديوم العواجيز الخيانة العظمى التي ستظل مثال الخيانة العظمى مدى التاريخ. لقد دعا البريزيديوم الأحد عشري اللجنة المركزية للانعقاد في سبتمبر ايلول 53 حيث اتخذت قرارا بإلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر بالإضافة إلى تنحية مالنكوف ليحل محله خروشتشوف المتعاون مع جنرالات الجيش. ما من خيانة مفضوحة أخرى مثل هذه الخيانة!! فليس للجنة المركزية أية سلطة تخولها إلغاء أو تجاوز مقررات الهيئة العامة للحزب، بل إن اللجنة المركزية منتخبة أساساً لتنفيذ مقررات المؤتمر العام لا أكثر ولا أقل. وثمة شكوك في شرعية دعوة اللجنة المركزية للإنعقاد حيث تُدعى اللجنة المركزية للإنعقاد للبحث في موضوع واحد محدد في الدعوة نفسها ويستبعد أن تكون تلك الدعوة قد حددت موضوع البحث الذي تركّز في إلغاء مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي.
ألغى ذلك الاجتماع الخياني الخطة الخمسية التي أقرها المؤتمر التاسع عشر والتي قضت بتوجيه الانتاج العام نحو الصناعات الاستهلاكية الخفيفة مستهدفة رفع مستوى حياة البروليتاريا السوفياتية إلى ما لا يوازية أرقى مستوى في أغنى الدول. لقد عرف ستالين ما عكسته القوى العسكرية السوفياتية في مواجهتها للعسكرية النازية الضخمة على مختلف الشعوب وخاصة في أوروبا الغربية وهو ما أثر في انزياحها إلى اليسار باعتراف شيرتشل في مؤتمر يالطا 45، وعليه كان هدف ستالين أن يحقق قفزة عريضة في عبور الاشتراكية كي ترى شعوب العالم وفي أوروبا الغربية تحديداً أن النظام الاشتراكي مؤهل أيضاً ليحقق تفوقاً في القدرات المدنية لما يفوق قدراته العسكرية. كان الحزب الشيوعي بقيادة ستالين يتأهب في العام 1952 لتحقيق أعظم ثورة اشتراكية في السنوات الخمس التالية، ثورة تصل إلى عتبة الشيوعية حيث تنعم البروليتاريا برغد لم يسبق للبشرية أن عرفت مثله. كان سيتم عبور الاشتراكية بصورة قاطعة غير قابلة للرجوع. لذلك تحديداً وجهت البورجوازية الوضيعة ضربتها القاضية لرأس الثورة الاشتراكية في الوقت الحرج فنجحت في ترحيل ستالين عن طريق تسميمه في الأول من مارس آذار 1953 وإلغاء كامل مقررات الهيئة العامة للحزب في سبتمبر ايلول من نفس العام. الانحراف الذي انحرفته قيادة الحزب في العام 1953 كان لا بد أن ينتهي بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كما بانهيار استقلال دول العالم الثالث بالتبعية.
يتجاوز المرتدون عن الشيوعية وقائع التاريخ حتى أكبرها وهي الحرب العالمية الثانية ليزعموا أن انهيار الاتحاد السوفياتي إنما جاء بسبب الستالينية رغم أن هؤلاء المرتدين أنفسهم لم يكن الانهيار في حسبانهم. لا يجوز أن تصل الوقاحة بهؤلاء لأن يزعموا بأن الانهيار جاء بسبب الستالينية بينما ستالين نفسه كان قد حذر من الانهيار قبل وقوعه بنصف قرن. بل إن لينين كان قد حذر من الانهيار في ديسمبر 1922 في حالة انفكاك التحالف بين العمال والفلاحين (الخطة الخمسية 52 – 56 كانت ترمي لمحو طبقة الفلاحين). في العام 1963 ولدى قراءتي في السجن تقرير خروشتشوف للمؤتمر العام الثاني والعشرين للحزب 1961 وفيه يؤكد بزوغ فجر الشيوعية في العام 1990، أكدت للرفاق معي في السجن أن الاتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990. استشرافي الانهيار الذي تحقق بعد ثلاثة عقود لم يكن إلا بقراءة ستالينية لتقرير خروششوف للمؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي. نحن اللينيين وعلى رأسنا معلمنا البولشفي يوسف ستالين كنا ندرك خطورة الصراع الطبقي على المشروع اللينيني ونتوجس خيفة من الانهيار، فكيف يُعزى الانهيار والحالة هذه إلى الستالينية!؟
مثقفو البورجوازية الوضيعة الذين كانوا قد ورّدوا الماركسية، نظرية الطبقة العاملة، إلى داخل الطبقة العاملة عادوا يسحبونها اليوم إلى خارج صفوف البروليتاريا. صحيح أن ارتداد المثقفين وتشويههم للماركسية عن قصد وغير قصد لأجل سحبها إلى خارج البروليتاريا إنما سببه الأساسي هو الجين البورجوازي الموروث في المثقفين المتمركسين، لكنه صحيح أيضاً أن هؤلاء المثقفين لم يمتلكوا الوعي الكافي لتعطيل أثر الجينات البورجوازية في طموحاتهم الذاتية. ما كان قد حدا بهؤلاء المثقفين إلى الإنضمام إلى معسكر البروليتاريا وحتى إطلاق النار على جبهة آبائهم البورجوازية إنما هو قوى التعقل في أبنية الماركسية الفلسفية والإقتصادية والسياسية. علوم الماركسية هي وحدها التي تمكنت من نقل الفلسفة والتاريخ من دائرة الآداب إلى دائرة العلوم. راهنت جيوش المثقفين الجرارة من البورجوازية الوضيعة على جواد الماركسية ليس لسبب آخر غير قوة بنية الجواد التي تؤهله لأن يسبق كل الجياد الأخرى. راهنت كي تكسب هي نفسها قبل أن تكسب البروليتاريا.
نحن هنا في سياق تعليل ردّة مثقفي البورجوازية الوضيعة على الشيوعية بصورة عامة وفك رهانهم على جواد الماركسية منسحبين كليّاً من جبهة البروليتاريا عائدين أدراجهم إلى حيث هم كانوا قد تخلّقوا أصلاً في مستنبت البورجوازية الوضيعة، نحن هنا لنقول أن ذلك لم يكن بسبب الجين البورجوازي الموروث فقط والذي استعاد حيويته إثر انهيار المعسكر الاشتراكي، بل أيضاً بسبب جهل هؤلاء المثقفين بأسباب قوة جواد الماركسية. إنجذب هؤلاء إلى الماركسية وتبنوها مرشداً لهم لكن من دون أن يتعمقوا في دراسة علومها. جهلهم هذا تفضحه كتاباتهم الارتدادية التي تثير الاستغراب من ماركسية هؤلاء البورجوازيين. كيف لمن يشط مثل هذا الشطط أن يدعي بأنه كان يوماً ماركسياً !؟ الماركسية ليس خياراً، إمّا أن يكون المرء ماركسياً أو لا يكون ! الماركسية علم تواجد قسمه الاجتماعي منذ ظهور المجتمعات البشرية على الأرض، وقسمه الفلسفي (الديالكتيك) منذ الأزل. أولئك الذين يرفضون الماركسية بسبب ضيق الأفق أو الموقف الرجعي عليهم أن يعلموا أنهم هم أنفسهم خاضعون لقوانين الطبيعة ولقوانين المجتمع كذلك، وهذه وتلك تشكل سقوف البنيان الماركسي حيث يستظل هؤلاء الرافضون مرغمين. الماركسية إنما هي قوانين الطبيعة وقوانين الحياة وما إنكار قوانين الطبيعة والحياة غير الكفر المطلق بقيمة الحياة البشرية.
بقي أن أقول أن ما يعضد هؤلاء المرتدين على الماركسية هو قيام بعض الأدعياء بعرض "ماركسياتهم" الفائقة الرثاثة فيما يوفره الحوار المتمدن من مساحات للكتابة لمثل هؤلاء الأدعياء الذين توفر أميتهم السياسية والمعرفية سلاحاً ماضياً تجيد البورجوازية الوضيعة استخدامه ضد العمل الشيوعي. من واجبي أن أسمي هؤلاء الأدعياء بالاسم خدمة للعمل الشيوعي إلا أن قواعد النشر في الحوار تحول دون ذلك كما أن ألسنة السوء لدى هؤلاء الأدعياء طويلة ولن توفر محرّماً لا تقترفه. الماركسية ليست مثل طوابع البريد يجمعها الهواة في انطباعات منفصلة كي يدعوا بالتالي العلم في الماركسية وهم خواة جوف كالطبل يعلو صوته أكثر كلما كبر جوفه وازداد خواءً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق