الرفيق حسقيل قوجمان
سبب اخر يقدمه اولئك الذين ينكرون قيام النظام الاشتراكي والمجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي هواحتفاظ الاتحاد السوفييتي بنظام الاجور. لنترك نقد برنامج غوتا وكتابات ماركس وانجلز التي اصبحت جثثا غير محنطة بعد مرور اكثر من قرن ونصف عليها فاكل الدهر عليها وشرب. ولنترك اللينينية التي اصبحت جثة محنطة راها بعضهم واشماز منها. وطبيعي ان ستالين لم يكن ماركسيا اصلا ومع ذلك بقي هناك شيء اسمه ماركسية ملائم للقرن الحادي والعشرين حين وصل العلم الى الله يعتنقونه ولا يقولون لنا ما هو. ولنحاول بحث الموضوع بلغة كل يوم.
منذ انفصال المجتمع الانساني عن المجتمع الحيواني واكتمال تحوله باستقامة قامته وتخصص ذراعيه للعمل ورجليه للمشي وتطور عقله الى درجة التفكير والاحتفاض بالافكار وتطبيقها عاش على شكل جماعة تعمل بصورة تعاونية من اجل الحصول على معيشته مصارعا الطبيعة. كان عليه ان يصيد الحيوان من اجل طعامه وهو ابرز شكل من اشكال صراعه مع الطبيعة. في صراعه ضد الطبيعة تعلم الانسان ان يستولي على اجزاء منها لمنفعته ولاستخدامها في الصراع ضد الطبيعة كالحجر والصخر وتعلم تدبيب الحجر لانه اكثر ملاءمة لصراعه ضد الحيوان والرمح او القوس او النار او صهر المعادن والخ مما لا يحصى من التقدم في عملية متواصلة دامت حتى اليوم وهي مستمرة في المستقبل ايضا.
العملية المتواصلة هذه هي صراع دائم بين الانسان واجزاء الطبيعة التي يكتشفها ويتعلمها ويستخدمها من جهة والطبيعة من الجانب الثاني. في هذا الصراع يستطيع الانسان ان ينتج شيئا جديدا ويستولي على اجزاء جديدة من الطبيعة. هذا الصراع هو المصدر الوحيد لكل ما ينتجه البشر على الارض. لكي نجد اسما لهذا الصراع نحتاج الى بعث الاسم الذي اطلقه ماركس على هذه العملية من قبره لانه ادق وانسب اسم يعبر عن هذا الصراع، اسم "قوى الانتاج" اذ لا يوجد اي انتاج خارج هذا الصراع.
اضافة الى هذا الصراع بين الانسان وجزء الطبيعة الذي يمتلكه ويسيطر عليه والطبيعة لابد ان تتكون ثمة علاقة بشرية بين هؤلاء المتصارعين. في مثلنا الاولي، صيد الحيوان، تتكون علاقة بين الصيادين في عملية الصيد وكيفية توزيع الفريسة بعد صيدها. في هذا المثل لا يمكن توزيع الفريسة الا باشتراك الصيادين في اكلها. في عملية الانتاج هذه، صيد الحيوان، وكيفية توزيعه تتكون علاقات بين جميع المنتجين، الصيادين، ولكي نطلق على هذه العملية ايضا اسما مناسبا يمكننا ان نخرج الاسم الذي اطلقه كارل ماركس من القبر، "علاقات الانتاج".
الصفة الاساسية لقوى الانتاج هي انها دائمة التطور والتوسع. فالجانب البشري فيها يتوسع بالتكاثر ويتوسع في التوصل الى السيطرة على المزيد من اجزاء الطبيعة واستخدامها في تطوير انتاجه وتوسيعه. هذه الظاهرة ما زالت مستمرة منذ نشوء المجتمع البشري وحتى يومنا هذا في عصر الثورة التكنولوجية. ان هذا التوسع في انتاج قوى الانتاج يؤدي الى تغييرات في علاقات الانتاج. يمكننا مثلا ان نتصور ان تطور الانتاج في العصور الاولى لحياة المجتمع ان الفريسة تسمح للصيادين بتقديم شيء من انتاجهم في الصيد للشيخ الذي اصبح عاجزا عن الاشتراك في عملية الصيد بدلا من قتله او تركه ليموت. عند تطور الزراعة يسمح الانتاج بتقديم بعض الانتاج للكاهن او المنجم الذي يتنبأ بمواعيد البذر المناسبة للزراعة او اعطاء بعض الامتياز للمحارب القوي الذي يقود المحاربين في حروبهم. ولكن الصفة الثابتة في هذه الحياة الاولية للمجتمع البشري هي وحدة قوى الانتاج. اي ان الجانب البشري من قوى الانتاج، الانسان العامل، يمتلك ادوات الانتاج التي يستخدمها في صراعه مع الطبيعة ويمتلك الانتاج الذي ينتجه يوزعه وفق علاقات الانتاج السائدة في حينه. الا ان التغيرات التي تحصل لا تغير من وحدة قوى الانتاج، اي ملكية الانسان العامل لادوات انتاجه ولانتاجه. هذا العهد من حياة المجتمع الانساني هو ما نسميه اليوم المشاعية البدائية.
لم يكن في هذا المجتمع تقسيم ليوم العمل الى العمل الضروري وفائض القيمة لان كل ما ينتجه الانسان في هذا المجتمع يعود اليه ولا يتحول قسم من هذا الانتاج لفئة اخرى غير عاملة في المجتمع.
كان الاسرى في الحروب في فترة المشاعية البدائية يقتلون تخلصا من واجب تزويدهم بالطعام. ولكن توسع عملية الانتاج المتواصلة خلقت ظروفا مختلفة. اصبح من الممكن استخدام الاسير كجزء من وسائل الانتاج ومنحه شيئا من الطعام لابقائه على الحياة. اصبح الاسير في هذه الحالة جزءا من ادوات الانتاج شأنه في ذلك شأن الفرس والثور ومن هنا نشأ التعريف الذي كنا نتعلمه في مدارسنا بان الانسان حيوان ناطق. كان هذا التغير تقدما هائلا بالنسبة للاسير. فبدلا من قتله حصل على حق البقاء على الحياة رغم تحوله هو الى اداة من ادوات الانتاج التي يملكها السيد.
ولكن الانسان من الناحية الثانية استساغ هذه العملية فاصبح الحصول على الاسرى في الحروب هدفا لامتلاكهم كأدوات انتاج. حدث النقض الاول لقوى الانتاج. انفصلت وحدة قوى الانتاج. اصبح الجزء الانساني من قوى الانتاج منفصلا عن ادوات الانتاج وعن الانتاج. فمن ناحية بقي الانسان العامل جزءا من قوى الانتاج كانسان ولكنه اصبح من الناحية الثانية احدى ادوات الانتاج التي لا يمتلكها ولا يمتلك انتاجها. اصبح العبد الانسان اداة الانتاج الرئيسية في المجتمع، المجتمع العبودي. نشأت الدولة لتنظيم الانتاج بكل ميزاته ومساوئه وللسيطرة على اداة الانتاج الرئيسية التي يمتلكونها، طبقة العبيد. اصبح المجتمع مجتمعا طبقيا من طبقة تعمل ولا تملك وسائل الانتاج ولا الانتاج وطبقة لا تعمل في الانتاج وتمتلك ادوات الانتاج والانتاج. وجميع عجائب الدنيا التي نفخر بها اليوم هي من انتاج الملايين من مثل هذا الانسان المنشطر عن نفسه لانسان عامل والى أداة انتاج. فهو كانسان فرد من المجتمع ولكنه كاداة عمل ملك لسيده لا يمتلك شيئا من ادوات الانتاج او الانتاج الذي ينتجه.
منذ هذا النقض الاجتماعي الاول وتحول المجتمع الى مجتمع طبقي نشأت ظاهرة جديدة. تستمر ظاهرة تطور قوى الانتاج وتوسعها من ناحية ولكن نشأت قوى تجد ان مصلحتها هي بقاء علاقات الانتاج لان تغير هذه العلاقات يضر بمصالحها. اصبح الانسان العامل بصفته الانسانية يعمل على استرجاع شيء من ادوات انتاجه وبعض انتاجه ولكن طبقة اسياد العبيد تستخدم اشد انواع القوة والقتل لمنع مثل هذا التحول. اصبح التاريخ منذ حدوث النقض الاول للمجتمع هو تاريخ الصراع الطبقي.
كان الاستغلال في هذا المجتمع واضحا وغير مستور. فالعبد هو المنتج لجميع انتاج المجتمع ولكن طبقة الاسياد تمتلك ادوات الانتاح التي اهمها الانسان نفسه كاداة انتاج وتمتلك كل الانتاج الاجتماعي ولا ينال العبد العامل والمنتج الا ما يتفضل عليه به سيده من الطعام لابقائه حيا. هنا ايضا لم يكن ثمة تقسيم ليوم العمل كجزء ضروري وجزء فائض. فانتاج العبد كله ملك السيد وليس للعبد فيه اي جزء.
ادى تطور قوى الانتاج المستمر الى توسع دور الارض كأداة انتاج نتيجة تطور الزراعة وتدجين الحيوانات واستخدامها بما لا يستطيع الانسان العامل القيام به. ادى هذا التطور الى ضرورة تغيير علاقات الانتاج بما يتفق وتطور قوى الانتاج وقد تحقق ذلك رغم معارضة اسياد العبيد الذين تدعو مصالحهم لبقاء الشكل العبودي من علاقات الانتاج. وكانت علاقات الانتاج الجديدة تقدما هائلا بالنسبة للانسان العامل.
في علاقات الانتاج الجديدة، العلاقات الاقطاعية، حصل الانسان العامل على جزء من نفسه كأداة انتاج وعلى جزء من ادوات الانتاج الطبيعية التي يستخدمها. ففي حين كان العبد اداة انتاج يملكها السيد لم يعد الاقطاعي يمتلك الانسان كأداة انتاج الا جزئيا. وبينما كان العبد منفصلا كليا عن انتاجه اصبح يمتلك جزءا من انتاجه. ففي النظام الاقطاعي اصبح الانسان العامل، القن، يعمل على قطعة ارض زراعية وبعض حيوانات الجر ويحصل على ما تنتجه هذه الارض من ثمار يعيش عليها ويواصل العمل بها في السنوات التالية. ومقابل ذلك يعمل الفلاح وعائلته اياما معينة في زراعة اراضي الاقطاعي وخدمة بيوت الاقطاعي. لم يكن يوم عمل القن مقسما الى جزء ضروري وجزء فائض بل كان يوم عمل القن في مزرعته يوم عمل وانتاج له ويوم عمل القن في مزرعة الاقطاعي او في قصره يوم عمل للاقطاعي. لم يكن استغلال الاقطاعي للقن مستورا بل كان واضحا حين يقوم القن بخدمة الاقطاعي في مزارعه او في قصره.
ولكن قوى الانتاج لن تتوقف عن التطور والتوسع فنشأت في داخل المجتمع الاقطاعي صناعة الاصناف وكانت لها قواعدها الصارمة حيث كان يعمل فيها العامل جزءا كبيرا من عمره في تعلم الصنعة كمياوم ثم خلفة الى ان يصبح اسطه ليحق له ان يكون صاحب صنعة ويستخدم المياومين والخلفات. ونشات نتيجة تطور الراسمال التجاري ما يسمى المانيفكتورا حيث كان التاجر يزود الفلاح بالمواد اللازمة لانتاج السلعة التي يتاجر بها ويدفع له مقابل ذلك. لم يتحول الفلاح في عصر المانيفكتورا الى عمل بالمعنى العلمي للعامل. فقد بقي فلاحا يكرس جزءا من عمله وعمل عائلته الى خدمة التاجر بادوات انتاج بدائية مما كان متوفرا لدى المجتمع في حينه.
استمر تطور قوى الانتاج فنشأت بعض الصناعات خصوصا بعد اكتشاف البخار لتشغيل المكائن البخارية. وفي المصنع كان صاحب المصنع الراسمالي بحاجة الى عمال يمارسون عملهم في المصنع يوما كاملا. لم يكن انذاك حدود لساعات العمل اليومية فكان على العامل ان يعمل ساعات طويلة بلغت ست عشرة ساعة في اليوم او اكثر. ولايصلح لمثل هذا العمل شخص يعمل في الزراعة او في مهنة اخرى غير العمل في المصنع.
اصبح العامل في مثل هذا الانتاج حرا بمعنيين. فمن ناحية اصبح مالكا لنفسه كوسيلة انتاج لا يشاركه في ذلك احد ومن الناحية الثانية اصبح لا يملك غير نفسه كوسيلة انتاج بدون ان تكون له اية علاقة بادوات الانتاج او بالانتاج. اصبحت نفسه كأداة عمل السلعة الوحيدة التي لا يستطيع ان يحصل على معيشته الا ببيعها. هذا لا يعني ان بيع العامل لنفسه كأداة عمل لم يحصل في الانظمة الاجتماعية السابقة ولكن ما حدث في سيادة الراسمال الصناعي ان هذا النوع من العامل لنفسه الشكل السائد في المجتمع. اصبح المجتمع مجتمعا راسماليا.
اصبح العامل في هذا المجتمع مالكا لقوة عمله يعرضها في السوق كسلعة كما يعرض التاجر بضاعته لمن يرغب في شرائها. اصبحت العلاقة بين العامل والراسمالي علاقة طبيعية في ظاهرها، علاقة بين بائع لسلعته ومشتر لها. يبيع العامل سلعته الوحيدة، قوة عمله، بقيمتها والراسمالي يشتريها بقيمتها ولا يبدو في العملية اي استغلال من جانب تجاه الجانب الاخر. ولكن الراسمالي حين يبيع سلعه المنتجة اثناء استخدام قوة العمل التي اشتراها بقيمتها يحصل على قيمة تفوق القيمة التي اشتراها بها، اي يحقق ارباحا. لم يكن مصدر هذه الارباح التي يجنيها الراسماليون معروفا الى ان اكتشفه كارل ماركس باوضح اشكاله.
اكتشف كارل ماركس ان قيمة قوة العمل عند شرائها تختلف عن قيمة استعمالها في الانتاج. اكتشف ان قيمة سلعة قوة العمل تختلف اختلافا كبيرا عن القيمة التي تخلقها عند استعمالها. اكتشف ان الراسمالي حتى لو اشترى سلعة قوة العمل بقيمتها الحقيقية فان قوة العمل عند الاستعمال في المصنع تنتج قيمة تفوق القيمة التي دفعها عند شرائها. اكتشف ان الفرق بين القيمة التبادلية لسلعة قوة العمل وبين القيمة الاستعمالية لقوة العمل هو المصدر الوحيد لارباح الراسماليين. اكتشف ان العامل عند استخدامه في المصنع ينتج في جزء من يوم العمل قيمة سلعة قوة عمله التبادلية وفي ساعات العمل الباقية ينتج فائض قيمة هو المصدر الوحيد لارباح الطبقة الراسمالية ولا توجد في في النظام الراسمالي اية ارباح غير فائض القيمة الذي يجنونه من استخدام قوة العمل التي يشترونها لاستخدامها في مصانعهم.
في الانظمة السابقة للنظام الراسمالي لم يكن ثمة تقسيم ليوم العمل الى قسم ضروري وقسم فائض لان الاستغلال كان واضحا. العبد كان نفسه وسيلة انتاج يملكها سيده وفي النظام الاقطاعي كان الاستغلال واضحا في الايام التي يعمل فيها القن في مزارع وقصور الاقطاعيين. في النظام الراسمالي فقط اصبح الاستغلال مستورا وخفيا عند تحول قوة العمل الى سلعة تباع وتشترى شأنها شأن كافة السلع الاخرى في المجتمع. في النظام الراسمالي فقط اصبح تقسيم يوم العمل الى القسم الضروري والقسم الفائض.
تختلف سلعة قوة العمل عن كافة السلع المعروضة في السوق العالمية للراسمالية. فعدا عن كونها تخلق اثناء استخدامها قيمة تفوق قيمتها تختلف عن سائر السلع اختلافا جوهريا اخر. جميع السلع عند بيعها تتحول الى ملكية المشتري ولا تبقى ثمة علاقة لها بالبائع. ومن حق المشتري ان يتصرف بالسلعة التي اشتراها كيفما يشاء. اما سلعة قوة العمل فتختلف عن جميع السلع بكونها غير قابلة للانفصال عن بائعها. فالبائع كانسان يجب حضوره مع سلعته التي يبيعها عند استعمالها. حين يشتري الراسمالي سلعة قوة العمل بقيمتها يجد ان من حقه ان يستعملها كيفما يشاء اسوة بغيرها من السلع. ولكن ارتباط الانسان العامل بقوة عمله كوسيلة انتاج يحد من قدرة الراسمالي ان يستعمل سلعة قوة العمل كما يشاء. فالانسان العامل كانسان يحتاج الى وقت للراحة للنوم للاكل لتكوين عائلة والعيش كانسان. بينما يرى الراسمالي ان من حقه استخدام السلعة التي اشتراها اربعا وعشرين ساعة في اليوم. وتاريخ النظام الراسمالي كله كان صراعا بين الانسان العامل وبين الراسمالي الذي يشتري سلعته حول تحديد ساعات العمل اليومي لهذه السلعة. هذا الشكل من بيع سلعة قوة العمل وشرائها في السوق واستخدامها خارج السوق في المصانع والحصول نتيجة استخدامها على فائض القيمة هو ما نسميه نظام الاجور. انه نظام خاص بالفترة الراسمالية من المجتمع.
كما ان شراء سلعة قوة العمل واستخدامها في الانتاج هو المصدر الوحيد لارباح الطبقة الراسمالية فمن الجانب الاخر تشكل الاجور، اي قيمة شراء سلعة العمل، المصدر الوحيد لدخل الانسان العامل. فليس للعامل اي دخل اخر غير قيمة سلعته، قوة عمله.
ولكن قوى الانتاج لن تتوقف عن التطور والاتساع. وقد ادى تطور قوى الانتاج في النظام الراسمالي الى ضرورة نشوء علاقات انتاج تتفق وتطور قوى الانتاج كما حصل في التحولات السابقة. وحصل التحول في ثورة اكتوبر. في ثورة اكتوبر حدث نقض النقض. ففي النقض الاول انفصلت ملكية وسائل الانتاج والانتاج عن الانسان المنتج. وفي نقض النقض عادت ملكية وسائل الانتاج والانتاج الى الانسان المنتج. اصبحت ملكية وسائل الانتاج والانتاج ملكية عامة للمجتمع العامل كله كما كانت في المشاعية البدائية ولكن بمستوى اعلى. بدات لاول مرة في تاريخ البشرية مرحلة الشيوعية المتقدمة بدلا من الشيوعية البدائية. وكما توقع كارل ماركس وانجلز كان على هذه المرحلة الشيوعية ان تمر في مرحلتين هما المرحلة الاشتراكية ثم المرحلة الشيوعية.
في المرحلة الاولى من الشيوعية، المرحلة الاشتراكية، تبقى بقايا النظام السابق وعلى المجتمع ان يتخلص منها سواء في الانتاج او من الناحية الطبقية كبقايا الطبقة الراسمالية المدحورة والتغلب على التناقض بين العمل الجسمي والعمل الفكري وبين العمل الزراعي والعمل الصناعي. وفي هذا النضال يحتاج النظام الاشتراكي الى استخدام الادوات التي استخدمتها الراسمالية كالدولة ومؤسساتها لمقاومة محاولات بقايا الطبقات القديمة لاستعادة سيطرتها.
اهم مظاهر المجتمع الشيوعي ان يصبح المجتمع قادرا على توفير كل ما يحتاجه الانسان وهو ما لا يتحقق في المرحلة الاولى . احدى اهم هذه الظواهر هي عدم توفر المواد الاستهلاكية لتوزيعها على الناس لكل حسب حاجته. كان على النظام الاشتراكي ان يجد وسيلة لتوزيع الانتاج المتوفر بطريقة ما فلم يجد افضل من نظام الاجور الذي ساد في النظام الراسمالي. ففي هذا النظام امكن تحقيق الشعار الاشتراكي من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله.
هناك تشابه بين نظام الاجور في النظام الراسمالي وفي النظام الاشتراكي هو كون العامل يستخدم لقاء اجور يتقاضاها بعد مدة من عمله، اسبوع، اسبوعين، شهر. هذا هو التشابه الوحيد بين نظام الاجور في النظام الراسمالي وفي النظام الاشتراكي.
في النظام الراسمالي تشكل اجور العامل دخله الوحيد. عليه ان يوفر كل مستلزمات حياته وحياة عائلته من هذه الاجور. من اجوره عليه ان يجد سكن عائلته ثقافة ابنائه مواد معيشتهم وكل حاجاته من اجل استمرار حياته وحياة عائلته واعادة انتاج سلعته الوحيدة، قوة عمله، كل يوم لليوم التالي. ومهما كانت اجور العامل لا تكفي لتوفير جميع هذه الحاجات لذلك يعيش طيلة حياته في حالة فقر. اضافة الى ذلك يعاني العامل من الازمات الراسمالية المتكررة والبطالة وكل المشاكل التي يعانيها العمال في ايامنا حتى في اكثر الدول الامبريالية تقدما كما تشير الاحصاءات في الولايات المتحدة اثناء الازمة الحالية التي يعاني منها العالم الراسمالي كله.
في النظام الاشتراكي تشكل الاجور وسيلة لتوزيع المواد الاستهلاكية التي لم يبلغ الانتاج فيها مستوى توزيعها لكل حسب حاجته. فهي ليست دخل العامل الوحيد. كل ما يستطيع المجتمع توزيعه لكل حسب حاجته يتمتع به العامل بصفته احد افراد المجتمع. السكن، الرعاية الصحية، الثقافة لكافة الاعمار، حضانات الاطفال، دور اللهو المسائية للاطفال التي كانت تسمى قصور الاطفال، العطل السنوية لكل عائلة والتمتع في مصايف ومنتجعات البلاد لكل عائلة، وكثير من الخدمات الاخرى تقدم لكل حسب حاجته. كذلك توفير وسائل اللهو باسعار رخيصة يستطيع العامل ان يوفرها كالسينما والمسارح وصالات الباليه والحفلات الموسيقية وغيرها وكذلك توفير المواصلات باسعار زهيدة. هذه الخدمات كلها توفر لكل فرد في المجتمع بدون تمييز وبلا علاقة بالاجور.
في النظام الراسمالي كان يوم عمل العامل منقسما الى الجزء الذي ينتج فيه العامل قيمة قوة عمله وجزء هو فائض قيمة يجنيه الراسمالي بدون مقابل. في النظام الاشتراكي لم يعد ثمة مثل هذا الانشطار في يوم العمل. اصبح يوم عمل العامل مساهمة في الانتاج الاجتماعي يصبح انتاجه جزءا من الانتاج الاجتماعي الذي يعود للمجتمع بكامله.
في المجتمع الراسمالي تكون قوة عمل العامل سلعة تعرض في الاسواق للبيع فاذا عجز العامل عن ايجاد من يشتريها تصبح قوة عمله قوة فانية تالفة غير منتجة في كل يوم بطالة يعاني منها العامل وعليه ان ينتج قوة عمل جديدة على امل بيعها في اليوم التالي.
في المجتمع الاشتراكي ليست قوة عمل العامل سلعة تعرض في الاسواق لبيعها. حق العمل حق مطلق مكفول لكل انسان قادر على العمل وانتاجه جزء من الانتاج الاجتماعي. واذا كان الانسان عاجزا عن العمل بسبب الشيخوخة او لاي سبب اخر فانه لا يتمتع بكافة الخدمات المتوفرة لكل حسب حاجته وحسب بل يتلقى حصته من المواد الاستهلاكية تحقق له حياة مشابهة لحياة العامل القادر على العمل.
عاش الاتحاد السوفييتي مجتمعا اشتراكيا حقيقيا عشرين عاما بضمنها بطولات الحرب ضد النازية واعادة البناء بعد الحرب. عشرون عاما لا تشكل بالقياس الى مليارات عمر الارض قطرة ماء في محيط. ولكنها مع ذلك عشرين عاما من تاريخ البشرية كانت تجربة لا مثيل لها في تاريخ البشر ية لا يمكن محوها او تجاهلها. يمكن للاجيال القادمة ان تستفيد من محسنات هذا التاريخ وتتحاشى اخطاءه. ولكن البشرية تستفيد من التاريخ الحقيقي لهذه العشرين عاما وليس مشوهاتها وافتراءاتها وتزييفاتها. وثمة اليوم في العالم حركات واسعة تدرس هذا التاريخ على حقيقته لغرض الاستفادة منه بطريقة صحيحة وناجعة من اجل تعميمه في العالم كله في عالم اشتراكي يتقدم نحو المجتمع الشيوعي.
سبب اخر يقدمه اولئك الذين ينكرون قيام النظام الاشتراكي والمجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي هواحتفاظ الاتحاد السوفييتي بنظام الاجور. لنترك نقد برنامج غوتا وكتابات ماركس وانجلز التي اصبحت جثثا غير محنطة بعد مرور اكثر من قرن ونصف عليها فاكل الدهر عليها وشرب. ولنترك اللينينية التي اصبحت جثة محنطة راها بعضهم واشماز منها. وطبيعي ان ستالين لم يكن ماركسيا اصلا ومع ذلك بقي هناك شيء اسمه ماركسية ملائم للقرن الحادي والعشرين حين وصل العلم الى الله يعتنقونه ولا يقولون لنا ما هو. ولنحاول بحث الموضوع بلغة كل يوم.
منذ انفصال المجتمع الانساني عن المجتمع الحيواني واكتمال تحوله باستقامة قامته وتخصص ذراعيه للعمل ورجليه للمشي وتطور عقله الى درجة التفكير والاحتفاض بالافكار وتطبيقها عاش على شكل جماعة تعمل بصورة تعاونية من اجل الحصول على معيشته مصارعا الطبيعة. كان عليه ان يصيد الحيوان من اجل طعامه وهو ابرز شكل من اشكال صراعه مع الطبيعة. في صراعه ضد الطبيعة تعلم الانسان ان يستولي على اجزاء منها لمنفعته ولاستخدامها في الصراع ضد الطبيعة كالحجر والصخر وتعلم تدبيب الحجر لانه اكثر ملاءمة لصراعه ضد الحيوان والرمح او القوس او النار او صهر المعادن والخ مما لا يحصى من التقدم في عملية متواصلة دامت حتى اليوم وهي مستمرة في المستقبل ايضا.
العملية المتواصلة هذه هي صراع دائم بين الانسان واجزاء الطبيعة التي يكتشفها ويتعلمها ويستخدمها من جهة والطبيعة من الجانب الثاني. في هذا الصراع يستطيع الانسان ان ينتج شيئا جديدا ويستولي على اجزاء جديدة من الطبيعة. هذا الصراع هو المصدر الوحيد لكل ما ينتجه البشر على الارض. لكي نجد اسما لهذا الصراع نحتاج الى بعث الاسم الذي اطلقه ماركس على هذه العملية من قبره لانه ادق وانسب اسم يعبر عن هذا الصراع، اسم "قوى الانتاج" اذ لا يوجد اي انتاج خارج هذا الصراع.
اضافة الى هذا الصراع بين الانسان وجزء الطبيعة الذي يمتلكه ويسيطر عليه والطبيعة لابد ان تتكون ثمة علاقة بشرية بين هؤلاء المتصارعين. في مثلنا الاولي، صيد الحيوان، تتكون علاقة بين الصيادين في عملية الصيد وكيفية توزيع الفريسة بعد صيدها. في هذا المثل لا يمكن توزيع الفريسة الا باشتراك الصيادين في اكلها. في عملية الانتاج هذه، صيد الحيوان، وكيفية توزيعه تتكون علاقات بين جميع المنتجين، الصيادين، ولكي نطلق على هذه العملية ايضا اسما مناسبا يمكننا ان نخرج الاسم الذي اطلقه كارل ماركس من القبر، "علاقات الانتاج".
الصفة الاساسية لقوى الانتاج هي انها دائمة التطور والتوسع. فالجانب البشري فيها يتوسع بالتكاثر ويتوسع في التوصل الى السيطرة على المزيد من اجزاء الطبيعة واستخدامها في تطوير انتاجه وتوسيعه. هذه الظاهرة ما زالت مستمرة منذ نشوء المجتمع البشري وحتى يومنا هذا في عصر الثورة التكنولوجية. ان هذا التوسع في انتاج قوى الانتاج يؤدي الى تغييرات في علاقات الانتاج. يمكننا مثلا ان نتصور ان تطور الانتاج في العصور الاولى لحياة المجتمع ان الفريسة تسمح للصيادين بتقديم شيء من انتاجهم في الصيد للشيخ الذي اصبح عاجزا عن الاشتراك في عملية الصيد بدلا من قتله او تركه ليموت. عند تطور الزراعة يسمح الانتاج بتقديم بعض الانتاج للكاهن او المنجم الذي يتنبأ بمواعيد البذر المناسبة للزراعة او اعطاء بعض الامتياز للمحارب القوي الذي يقود المحاربين في حروبهم. ولكن الصفة الثابتة في هذه الحياة الاولية للمجتمع البشري هي وحدة قوى الانتاج. اي ان الجانب البشري من قوى الانتاج، الانسان العامل، يمتلك ادوات الانتاج التي يستخدمها في صراعه مع الطبيعة ويمتلك الانتاج الذي ينتجه يوزعه وفق علاقات الانتاج السائدة في حينه. الا ان التغيرات التي تحصل لا تغير من وحدة قوى الانتاج، اي ملكية الانسان العامل لادوات انتاجه ولانتاجه. هذا العهد من حياة المجتمع الانساني هو ما نسميه اليوم المشاعية البدائية.
لم يكن في هذا المجتمع تقسيم ليوم العمل الى العمل الضروري وفائض القيمة لان كل ما ينتجه الانسان في هذا المجتمع يعود اليه ولا يتحول قسم من هذا الانتاج لفئة اخرى غير عاملة في المجتمع.
كان الاسرى في الحروب في فترة المشاعية البدائية يقتلون تخلصا من واجب تزويدهم بالطعام. ولكن توسع عملية الانتاج المتواصلة خلقت ظروفا مختلفة. اصبح من الممكن استخدام الاسير كجزء من وسائل الانتاج ومنحه شيئا من الطعام لابقائه على الحياة. اصبح الاسير في هذه الحالة جزءا من ادوات الانتاج شأنه في ذلك شأن الفرس والثور ومن هنا نشأ التعريف الذي كنا نتعلمه في مدارسنا بان الانسان حيوان ناطق. كان هذا التغير تقدما هائلا بالنسبة للاسير. فبدلا من قتله حصل على حق البقاء على الحياة رغم تحوله هو الى اداة من ادوات الانتاج التي يملكها السيد.
ولكن الانسان من الناحية الثانية استساغ هذه العملية فاصبح الحصول على الاسرى في الحروب هدفا لامتلاكهم كأدوات انتاج. حدث النقض الاول لقوى الانتاج. انفصلت وحدة قوى الانتاج. اصبح الجزء الانساني من قوى الانتاج منفصلا عن ادوات الانتاج وعن الانتاج. فمن ناحية بقي الانسان العامل جزءا من قوى الانتاج كانسان ولكنه اصبح من الناحية الثانية احدى ادوات الانتاج التي لا يمتلكها ولا يمتلك انتاجها. اصبح العبد الانسان اداة الانتاج الرئيسية في المجتمع، المجتمع العبودي. نشأت الدولة لتنظيم الانتاج بكل ميزاته ومساوئه وللسيطرة على اداة الانتاج الرئيسية التي يمتلكونها، طبقة العبيد. اصبح المجتمع مجتمعا طبقيا من طبقة تعمل ولا تملك وسائل الانتاج ولا الانتاج وطبقة لا تعمل في الانتاج وتمتلك ادوات الانتاج والانتاج. وجميع عجائب الدنيا التي نفخر بها اليوم هي من انتاج الملايين من مثل هذا الانسان المنشطر عن نفسه لانسان عامل والى أداة انتاج. فهو كانسان فرد من المجتمع ولكنه كاداة عمل ملك لسيده لا يمتلك شيئا من ادوات الانتاج او الانتاج الذي ينتجه.
منذ هذا النقض الاجتماعي الاول وتحول المجتمع الى مجتمع طبقي نشأت ظاهرة جديدة. تستمر ظاهرة تطور قوى الانتاج وتوسعها من ناحية ولكن نشأت قوى تجد ان مصلحتها هي بقاء علاقات الانتاج لان تغير هذه العلاقات يضر بمصالحها. اصبح الانسان العامل بصفته الانسانية يعمل على استرجاع شيء من ادوات انتاجه وبعض انتاجه ولكن طبقة اسياد العبيد تستخدم اشد انواع القوة والقتل لمنع مثل هذا التحول. اصبح التاريخ منذ حدوث النقض الاول للمجتمع هو تاريخ الصراع الطبقي.
كان الاستغلال في هذا المجتمع واضحا وغير مستور. فالعبد هو المنتج لجميع انتاج المجتمع ولكن طبقة الاسياد تمتلك ادوات الانتاح التي اهمها الانسان نفسه كاداة انتاج وتمتلك كل الانتاج الاجتماعي ولا ينال العبد العامل والمنتج الا ما يتفضل عليه به سيده من الطعام لابقائه حيا. هنا ايضا لم يكن ثمة تقسيم ليوم العمل كجزء ضروري وجزء فائض. فانتاج العبد كله ملك السيد وليس للعبد فيه اي جزء.
ادى تطور قوى الانتاج المستمر الى توسع دور الارض كأداة انتاج نتيجة تطور الزراعة وتدجين الحيوانات واستخدامها بما لا يستطيع الانسان العامل القيام به. ادى هذا التطور الى ضرورة تغيير علاقات الانتاج بما يتفق وتطور قوى الانتاج وقد تحقق ذلك رغم معارضة اسياد العبيد الذين تدعو مصالحهم لبقاء الشكل العبودي من علاقات الانتاج. وكانت علاقات الانتاج الجديدة تقدما هائلا بالنسبة للانسان العامل.
في علاقات الانتاج الجديدة، العلاقات الاقطاعية، حصل الانسان العامل على جزء من نفسه كأداة انتاج وعلى جزء من ادوات الانتاج الطبيعية التي يستخدمها. ففي حين كان العبد اداة انتاج يملكها السيد لم يعد الاقطاعي يمتلك الانسان كأداة انتاج الا جزئيا. وبينما كان العبد منفصلا كليا عن انتاجه اصبح يمتلك جزءا من انتاجه. ففي النظام الاقطاعي اصبح الانسان العامل، القن، يعمل على قطعة ارض زراعية وبعض حيوانات الجر ويحصل على ما تنتجه هذه الارض من ثمار يعيش عليها ويواصل العمل بها في السنوات التالية. ومقابل ذلك يعمل الفلاح وعائلته اياما معينة في زراعة اراضي الاقطاعي وخدمة بيوت الاقطاعي. لم يكن يوم عمل القن مقسما الى جزء ضروري وجزء فائض بل كان يوم عمل القن في مزرعته يوم عمل وانتاج له ويوم عمل القن في مزرعة الاقطاعي او في قصره يوم عمل للاقطاعي. لم يكن استغلال الاقطاعي للقن مستورا بل كان واضحا حين يقوم القن بخدمة الاقطاعي في مزارعه او في قصره.
ولكن قوى الانتاج لن تتوقف عن التطور والتوسع فنشأت في داخل المجتمع الاقطاعي صناعة الاصناف وكانت لها قواعدها الصارمة حيث كان يعمل فيها العامل جزءا كبيرا من عمره في تعلم الصنعة كمياوم ثم خلفة الى ان يصبح اسطه ليحق له ان يكون صاحب صنعة ويستخدم المياومين والخلفات. ونشات نتيجة تطور الراسمال التجاري ما يسمى المانيفكتورا حيث كان التاجر يزود الفلاح بالمواد اللازمة لانتاج السلعة التي يتاجر بها ويدفع له مقابل ذلك. لم يتحول الفلاح في عصر المانيفكتورا الى عمل بالمعنى العلمي للعامل. فقد بقي فلاحا يكرس جزءا من عمله وعمل عائلته الى خدمة التاجر بادوات انتاج بدائية مما كان متوفرا لدى المجتمع في حينه.
استمر تطور قوى الانتاج فنشأت بعض الصناعات خصوصا بعد اكتشاف البخار لتشغيل المكائن البخارية. وفي المصنع كان صاحب المصنع الراسمالي بحاجة الى عمال يمارسون عملهم في المصنع يوما كاملا. لم يكن انذاك حدود لساعات العمل اليومية فكان على العامل ان يعمل ساعات طويلة بلغت ست عشرة ساعة في اليوم او اكثر. ولايصلح لمثل هذا العمل شخص يعمل في الزراعة او في مهنة اخرى غير العمل في المصنع.
اصبح العامل في مثل هذا الانتاج حرا بمعنيين. فمن ناحية اصبح مالكا لنفسه كوسيلة انتاج لا يشاركه في ذلك احد ومن الناحية الثانية اصبح لا يملك غير نفسه كوسيلة انتاج بدون ان تكون له اية علاقة بادوات الانتاج او بالانتاج. اصبحت نفسه كأداة عمل السلعة الوحيدة التي لا يستطيع ان يحصل على معيشته الا ببيعها. هذا لا يعني ان بيع العامل لنفسه كأداة عمل لم يحصل في الانظمة الاجتماعية السابقة ولكن ما حدث في سيادة الراسمال الصناعي ان هذا النوع من العامل لنفسه الشكل السائد في المجتمع. اصبح المجتمع مجتمعا راسماليا.
اصبح العامل في هذا المجتمع مالكا لقوة عمله يعرضها في السوق كسلعة كما يعرض التاجر بضاعته لمن يرغب في شرائها. اصبحت العلاقة بين العامل والراسمالي علاقة طبيعية في ظاهرها، علاقة بين بائع لسلعته ومشتر لها. يبيع العامل سلعته الوحيدة، قوة عمله، بقيمتها والراسمالي يشتريها بقيمتها ولا يبدو في العملية اي استغلال من جانب تجاه الجانب الاخر. ولكن الراسمالي حين يبيع سلعه المنتجة اثناء استخدام قوة العمل التي اشتراها بقيمتها يحصل على قيمة تفوق القيمة التي اشتراها بها، اي يحقق ارباحا. لم يكن مصدر هذه الارباح التي يجنيها الراسماليون معروفا الى ان اكتشفه كارل ماركس باوضح اشكاله.
اكتشف كارل ماركس ان قيمة قوة العمل عند شرائها تختلف عن قيمة استعمالها في الانتاج. اكتشف ان قيمة سلعة قوة العمل تختلف اختلافا كبيرا عن القيمة التي تخلقها عند استعمالها. اكتشف ان الراسمالي حتى لو اشترى سلعة قوة العمل بقيمتها الحقيقية فان قوة العمل عند الاستعمال في المصنع تنتج قيمة تفوق القيمة التي دفعها عند شرائها. اكتشف ان الفرق بين القيمة التبادلية لسلعة قوة العمل وبين القيمة الاستعمالية لقوة العمل هو المصدر الوحيد لارباح الراسماليين. اكتشف ان العامل عند استخدامه في المصنع ينتج في جزء من يوم العمل قيمة سلعة قوة عمله التبادلية وفي ساعات العمل الباقية ينتج فائض قيمة هو المصدر الوحيد لارباح الطبقة الراسمالية ولا توجد في في النظام الراسمالي اية ارباح غير فائض القيمة الذي يجنونه من استخدام قوة العمل التي يشترونها لاستخدامها في مصانعهم.
في الانظمة السابقة للنظام الراسمالي لم يكن ثمة تقسيم ليوم العمل الى قسم ضروري وقسم فائض لان الاستغلال كان واضحا. العبد كان نفسه وسيلة انتاج يملكها سيده وفي النظام الاقطاعي كان الاستغلال واضحا في الايام التي يعمل فيها القن في مزارع وقصور الاقطاعيين. في النظام الراسمالي فقط اصبح الاستغلال مستورا وخفيا عند تحول قوة العمل الى سلعة تباع وتشترى شأنها شأن كافة السلع الاخرى في المجتمع. في النظام الراسمالي فقط اصبح تقسيم يوم العمل الى القسم الضروري والقسم الفائض.
تختلف سلعة قوة العمل عن كافة السلع المعروضة في السوق العالمية للراسمالية. فعدا عن كونها تخلق اثناء استخدامها قيمة تفوق قيمتها تختلف عن سائر السلع اختلافا جوهريا اخر. جميع السلع عند بيعها تتحول الى ملكية المشتري ولا تبقى ثمة علاقة لها بالبائع. ومن حق المشتري ان يتصرف بالسلعة التي اشتراها كيفما يشاء. اما سلعة قوة العمل فتختلف عن جميع السلع بكونها غير قابلة للانفصال عن بائعها. فالبائع كانسان يجب حضوره مع سلعته التي يبيعها عند استعمالها. حين يشتري الراسمالي سلعة قوة العمل بقيمتها يجد ان من حقه ان يستعملها كيفما يشاء اسوة بغيرها من السلع. ولكن ارتباط الانسان العامل بقوة عمله كوسيلة انتاج يحد من قدرة الراسمالي ان يستعمل سلعة قوة العمل كما يشاء. فالانسان العامل كانسان يحتاج الى وقت للراحة للنوم للاكل لتكوين عائلة والعيش كانسان. بينما يرى الراسمالي ان من حقه استخدام السلعة التي اشتراها اربعا وعشرين ساعة في اليوم. وتاريخ النظام الراسمالي كله كان صراعا بين الانسان العامل وبين الراسمالي الذي يشتري سلعته حول تحديد ساعات العمل اليومي لهذه السلعة. هذا الشكل من بيع سلعة قوة العمل وشرائها في السوق واستخدامها خارج السوق في المصانع والحصول نتيجة استخدامها على فائض القيمة هو ما نسميه نظام الاجور. انه نظام خاص بالفترة الراسمالية من المجتمع.
كما ان شراء سلعة قوة العمل واستخدامها في الانتاج هو المصدر الوحيد لارباح الطبقة الراسمالية فمن الجانب الاخر تشكل الاجور، اي قيمة شراء سلعة العمل، المصدر الوحيد لدخل الانسان العامل. فليس للعامل اي دخل اخر غير قيمة سلعته، قوة عمله.
ولكن قوى الانتاج لن تتوقف عن التطور والاتساع. وقد ادى تطور قوى الانتاج في النظام الراسمالي الى ضرورة نشوء علاقات انتاج تتفق وتطور قوى الانتاج كما حصل في التحولات السابقة. وحصل التحول في ثورة اكتوبر. في ثورة اكتوبر حدث نقض النقض. ففي النقض الاول انفصلت ملكية وسائل الانتاج والانتاج عن الانسان المنتج. وفي نقض النقض عادت ملكية وسائل الانتاج والانتاج الى الانسان المنتج. اصبحت ملكية وسائل الانتاج والانتاج ملكية عامة للمجتمع العامل كله كما كانت في المشاعية البدائية ولكن بمستوى اعلى. بدات لاول مرة في تاريخ البشرية مرحلة الشيوعية المتقدمة بدلا من الشيوعية البدائية. وكما توقع كارل ماركس وانجلز كان على هذه المرحلة الشيوعية ان تمر في مرحلتين هما المرحلة الاشتراكية ثم المرحلة الشيوعية.
في المرحلة الاولى من الشيوعية، المرحلة الاشتراكية، تبقى بقايا النظام السابق وعلى المجتمع ان يتخلص منها سواء في الانتاج او من الناحية الطبقية كبقايا الطبقة الراسمالية المدحورة والتغلب على التناقض بين العمل الجسمي والعمل الفكري وبين العمل الزراعي والعمل الصناعي. وفي هذا النضال يحتاج النظام الاشتراكي الى استخدام الادوات التي استخدمتها الراسمالية كالدولة ومؤسساتها لمقاومة محاولات بقايا الطبقات القديمة لاستعادة سيطرتها.
اهم مظاهر المجتمع الشيوعي ان يصبح المجتمع قادرا على توفير كل ما يحتاجه الانسان وهو ما لا يتحقق في المرحلة الاولى . احدى اهم هذه الظواهر هي عدم توفر المواد الاستهلاكية لتوزيعها على الناس لكل حسب حاجته. كان على النظام الاشتراكي ان يجد وسيلة لتوزيع الانتاج المتوفر بطريقة ما فلم يجد افضل من نظام الاجور الذي ساد في النظام الراسمالي. ففي هذا النظام امكن تحقيق الشعار الاشتراكي من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله.
هناك تشابه بين نظام الاجور في النظام الراسمالي وفي النظام الاشتراكي هو كون العامل يستخدم لقاء اجور يتقاضاها بعد مدة من عمله، اسبوع، اسبوعين، شهر. هذا هو التشابه الوحيد بين نظام الاجور في النظام الراسمالي وفي النظام الاشتراكي.
في النظام الراسمالي تشكل اجور العامل دخله الوحيد. عليه ان يوفر كل مستلزمات حياته وحياة عائلته من هذه الاجور. من اجوره عليه ان يجد سكن عائلته ثقافة ابنائه مواد معيشتهم وكل حاجاته من اجل استمرار حياته وحياة عائلته واعادة انتاج سلعته الوحيدة، قوة عمله، كل يوم لليوم التالي. ومهما كانت اجور العامل لا تكفي لتوفير جميع هذه الحاجات لذلك يعيش طيلة حياته في حالة فقر. اضافة الى ذلك يعاني العامل من الازمات الراسمالية المتكررة والبطالة وكل المشاكل التي يعانيها العمال في ايامنا حتى في اكثر الدول الامبريالية تقدما كما تشير الاحصاءات في الولايات المتحدة اثناء الازمة الحالية التي يعاني منها العالم الراسمالي كله.
في النظام الاشتراكي تشكل الاجور وسيلة لتوزيع المواد الاستهلاكية التي لم يبلغ الانتاج فيها مستوى توزيعها لكل حسب حاجته. فهي ليست دخل العامل الوحيد. كل ما يستطيع المجتمع توزيعه لكل حسب حاجته يتمتع به العامل بصفته احد افراد المجتمع. السكن، الرعاية الصحية، الثقافة لكافة الاعمار، حضانات الاطفال، دور اللهو المسائية للاطفال التي كانت تسمى قصور الاطفال، العطل السنوية لكل عائلة والتمتع في مصايف ومنتجعات البلاد لكل عائلة، وكثير من الخدمات الاخرى تقدم لكل حسب حاجته. كذلك توفير وسائل اللهو باسعار رخيصة يستطيع العامل ان يوفرها كالسينما والمسارح وصالات الباليه والحفلات الموسيقية وغيرها وكذلك توفير المواصلات باسعار زهيدة. هذه الخدمات كلها توفر لكل فرد في المجتمع بدون تمييز وبلا علاقة بالاجور.
في النظام الراسمالي كان يوم عمل العامل منقسما الى الجزء الذي ينتج فيه العامل قيمة قوة عمله وجزء هو فائض قيمة يجنيه الراسمالي بدون مقابل. في النظام الاشتراكي لم يعد ثمة مثل هذا الانشطار في يوم العمل. اصبح يوم عمل العامل مساهمة في الانتاج الاجتماعي يصبح انتاجه جزءا من الانتاج الاجتماعي الذي يعود للمجتمع بكامله.
في المجتمع الراسمالي تكون قوة عمل العامل سلعة تعرض في الاسواق للبيع فاذا عجز العامل عن ايجاد من يشتريها تصبح قوة عمله قوة فانية تالفة غير منتجة في كل يوم بطالة يعاني منها العامل وعليه ان ينتج قوة عمل جديدة على امل بيعها في اليوم التالي.
في المجتمع الاشتراكي ليست قوة عمل العامل سلعة تعرض في الاسواق لبيعها. حق العمل حق مطلق مكفول لكل انسان قادر على العمل وانتاجه جزء من الانتاج الاجتماعي. واذا كان الانسان عاجزا عن العمل بسبب الشيخوخة او لاي سبب اخر فانه لا يتمتع بكافة الخدمات المتوفرة لكل حسب حاجته وحسب بل يتلقى حصته من المواد الاستهلاكية تحقق له حياة مشابهة لحياة العامل القادر على العمل.
عاش الاتحاد السوفييتي مجتمعا اشتراكيا حقيقيا عشرين عاما بضمنها بطولات الحرب ضد النازية واعادة البناء بعد الحرب. عشرون عاما لا تشكل بالقياس الى مليارات عمر الارض قطرة ماء في محيط. ولكنها مع ذلك عشرين عاما من تاريخ البشرية كانت تجربة لا مثيل لها في تاريخ البشر ية لا يمكن محوها او تجاهلها. يمكن للاجيال القادمة ان تستفيد من محسنات هذا التاريخ وتتحاشى اخطاءه. ولكن البشرية تستفيد من التاريخ الحقيقي لهذه العشرين عاما وليس مشوهاتها وافتراءاتها وتزييفاتها. وثمة اليوم في العالم حركات واسعة تدرس هذا التاريخ على حقيقته لغرض الاستفادة منه بطريقة صحيحة وناجعة من اجل تعميمه في العالم كله في عالم اشتراكي يتقدم نحو المجتمع الشيوعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق