الرفيق فؤاد النمري
في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي (البلشفيك) 1921 تقرر بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ومنذ ذلك التاريخ والصراع الطبقي يتعالى حتى داخل الحزب بين البروليتاريا يقودها لينين ثم ستالين، وبين البورجوازية الوضيعة بقيادات إما يسارية من مثل تروتسكي أو يمينية من مثل بوخارين ثم خروشتشوف. عيون ستالين اليقظ التي لم تغمض جفونها لأكثر من ثلاثين عاماً 1922 ـ 1953 لم تعد كافية لحراسة مسيرة الإنسانية الثورية نحو بناء عالم شيوعي جديد مختلف يتحرر فيه الإنسان من قيد الإنتاج الصدئ؛ فكان ستالين أخيراً أن أعلن في نوفمبر 1952 أن أعضاء البريزيديوم، المكتب السياسي للحزب الشيوعي وهم قادة الحزب، جميعهم ليسوا شيوعيين حقيقيين ليقودوا المجتمع إلى الشيوعية، وطلب من المؤتمر العام انتخاب 12 عضواً آخرين كي يكون المكتب السياسي من 24 عضواً كاحتراز لئلا تنحرف قيادة الحزب عن النهج اللينيني كما توقع ستالين. ما أكد هواجس ستالين هو أن رفاقه في البريزيديوم الأحد عشر لم يمهلوه طويلاً قبل أن يغتالوه بالسم عشية الأول من مارس 1953، وأن يجتمعوا قبل دفنه ليلغوا قرار المؤتمر العام للحزب بإضافة 12 عضواً آخرين للمكتب السياسي وهو القرار الصادر عن المؤتمر العام للحزب الذي لا يجوز إلغاؤه. بعض الذين يتشفون اليوم باغتيال ستالين يزعمون أن وصول المجرمين القتلة إلى رئاسة الحزب يعود للقيادة البيروقراطية لستالين الذي كان يأتي بأنصاره للقيادة تعزيزا لسلطته المطلقة في الحزب. مثل هؤلاء البورجوازيين لا يعرفون النظام الداخلي الديموقراطي للحزب الشيوعي. ففي مؤتمر الحزب العام التاسع عشر في نوفمبر 1952 وجه ستالين نقداً لاذعاً لجميع الأعضاء في المكتب السياسي وأكد للمندوبين في المؤتمر وبدون مواربة أن أولئك المسنين لم يعودوا قادرين على العمل الشيوعي، لكن لخيبة أمل ستالين أعاد المندوبون انتخاب جميع أعضاء القيادة مرة أخرى وهو ما يدل أن من يعيّن عضو القيادة هم المندوبون وليس ستالين. ليس ثمة أدنى شك في أن قيام القيادة بعد رحيل ستالين بإلغاء كافة مقررات المؤتمر العام للحزب المنعقد قبل أشهر قليلة والتي لا يجوز إلغاؤها بحال من الأحوال وخاصة الخطة الخمسية التي تعكس الخطوط الرئيسة لسياسة الدولة والحزب، كل ذلك يؤكد أن الصراع بين قيادة البروليتاريا وقيادة البورجوازية الوضيعة المتمثلة بتيار قوي في قيادة الحزب بالإضافة إلى مئات المارشالات والجنرالات وخلفهم العسكر والفلاحون قد وصل حد التصفيات الدموية كما تبدّى ذلك بجلاء في الانقلاب العسكري في يونيو 1957 لإعادة خروشتشوف إلى السلطة بعد أن نزعت منه بقرار من قبادة الحزب، والانقلاب العسكري الثاني في أكتوبر 1964 لنزع السلطة من خروشتشوف بعد أن عصرته البورجوازية الوضيعة حتى النهاية ثم ألقت به في الزبالة.
لا يمكن قراءة التاريخ قراءة علمية وموضوعية بلغة أخرى غير لغة الصراع الطبقي. مثقفو البورجوازية الوضيعة لا يبررون وضاعتهم بغير الحديث السمج الذي لا ينتهي عما يسمونه "جرائم" ستالين و "سنوات الرعب" و "التصفيات الكبرى" (Great Purge) 1937 و 38. يمكر هؤلاء البورجوازيون ويصدقهم أعداد كبيرة من الشيوعيين السذج. يتجاهلون الصراع الطبقي ولكأن البورجوازية الوضيعة تلين قناتها وتستسلم للأقدار وتتحول طائعة إلى بروليتاريا !! هذا لن يحدث حتى في الأحلام. كان طلائعيو البورجوازية الوضيعة ومنهم من يتواجد في قيادة الحزب الشيوعي يستعدون للتفاوض مع هتلر على شروط استسلام روسيا والاتحاد السوفياتي. لقد ثبت ذلك في المحاكمات التي جرت لعشرات من هؤلاء الخونة، محاكمات علنية بحضور مختلف وكالات الأنباء وسفراء الدول الأجنبية مع التأكيد على أن تعذيب المتهمين محظور بموجب القانون. كان بوخارين والمارشال توخاتشوفسكي يتصلان بهتلر وكان زينوفييف وكامينيف يتصلان بتروتسكي وهو يحرّض هتلر على مهاجمة الاتحاد السوفياتي كما فضحته تصريحاته إلى مجلة بوست دسباتش في سانت لويس St. Louis Post-Dispatch للصحفي جوليوس كليمان Julius Clymanفي عددي يناير ومارس 1940 ، ويقدم التقارير الاستخباراتية باسماء الشيوعيين في أميركا الشمالية إلى مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) كما كشف أحد أصدقائه المقربين أثناء التحقيق في مقتله.
في تلك الظروف الفاصلة وإزاء الأخطار الحقيقية التي تتهدد المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية المتجسد في الاتحاد السوفياتي، أخطار الفاشية والنازية في أواسط أوروبا المستفحلة برعاية المخابرات الانجليزية، وهي أحط وأسفل مخابرات عبر التاريخ، ترتب على ستالين بشكل خاص وهو الوارث المؤتمن الوحيد على تراث لينين والثورة الاشتراكية العالمية، ترتب عليه القيام بواجب حماية اللينينية ودولة البروليتاريا الأولى في التاريخ. ذلك بالنسبة لستالين قائد البروليتاريا في العالم، وكان قد رأى ملايين الشيوعيين يفتدون الثورة الاشتراكية بأرواحهم، تهون معه كل الأثمان التي يمكن أن تتحملها بروليتاريا العالم.
في مواجهة المؤامرة الكبرى على الدولة السوفياتية، التي خططت لها الامبريالية بالتعاون مع الفاشية والنازية كما دلت على ذلك نتائج مؤتمر ميونخ 1938 ، أطلق ستالين حملة تطهير كبرى (Great Purge) قبل انتهاء ثلاثينيات القرن الماضي تستهدف استئصال شأفة البورجوازية الوضيعة في الحزب وفي الدولة كيلا يجد هتلر من يتعاون معه أثناء عدوانه المرتقب. لقد أكد ستالين فيما بعد الانتصار على النازية أن حملة تطهير الحزب والدولة كان لها الأثر البالغ في الإنتصار. مع ذلك كان وزير أمن الدولة آنذاك ايزوف(Nikolai Ezhov) قد عمد متآمراً مع قوى البورجوازية الوضيعة إلى تلطيخ حملة التطهير، واستطاع أن يسوق العديد من الشيوعيين الشرفاء إلى المقصلة وكان إعدامه لا يسد فداحة جرائمه.
عبور الاشتراكية في روسيا القيصرية كان غيره لو كان في ألمانيا أو إنجلترا. فمضاعفة قوى البروليتاريا في المجتمع بعد انطلاق الثورة الاشتراكية في روسيا المتخلفة كان يتطلب أيضاً مضاعفة قوى البورجوازية الوضيعة من غير الفلاحين. فالاشتراكية السوفياتية كانت تنتج أعداءها تماماً مثلما كانت الرأسمالية تنتج أعداءها باستثناء أن الفرق في الحالة السوفياتية هو أن دولة دكتاتورية البروليتاريا تعي أن وظيفتها الرئيسة هي محو طبقة البورجوازية الوضيعة حتى التلاشي، بينما الطبقة الرأسمالية لا تتطور ولا تتقدم إلا مع تطور وتقدم طبقة البروليتاريا. كانت دولة دكتاتورية البروليتاريا بقيادة مثل قيادة ستالين ستتحمل التوالد الطبيعي للبورجوازية الوضيعة وتتجاوز كل الصعاب التي تقيمها البورجوازية على طريق عبور الاشتراكية، كما كانت قد تحملت وتجاوزت مختلف الصعاب أو العوائق الهائلة في العشرينات والثلاثينيات، إلا أن عوامل خارجية غير سوفياتية تدخلت لتقلب موازين المعادلة. تلك العوامل كانت بمجملها الحرب، العدوان الهتلري على الاتحاد السوفياتي بغير أوانه. لم يترك ستالين باباً إلا وطرقه مستهدفاً تحاشي الحرب؛ فكان أن رفضت بريطانيا وفرنسا كل تحالف مع الاتحاد السوفياتي في مواجهة النازية والفاشية في أواسط أوروبا وكانت هاتان الامبراطوريتان الاستعماريتان قد شجعتا الكولونيالية النازية باعترافهما باحتلال النمسا وموافقتهما دون استشارة السوفييت، كما كان يتوجب، على سلخ منطقة السوديت من تشيكوسلوفاكيا وإهدائها إلى هتلر كما تقرر في مؤتمر ميونخ 1938، وكانت الامبراطوريتان، وخاصة بريطانيا واستخباراتها الاجرامية، ترعيان النازية مؤملتان توظيف النازية في كسر مد الثورة الاشتراكية التي كانت قد حققت نجاحات كبرى داخل الاتحاد السوفياتي. كما رفضت الولايات المتحدة التحالف مع السوفييت ضد النازية إذ كانت قد قررت بقاءها بعيدة عن حروب أوروبا قبل عدوان بيرل هاربر (Pearl Harbour) في ديسمبر1941. وعليه لم يبق لدى ستالين أي حيلة لتحاشي الحرب سوى الاتفاق مع هتلر على عدم الاعتداء (Non-aggression Pact) الموقع في أغسطس 1939 وهو الميثاق الذي عمد مجندو الإمبريالية الأنجلو- فرنسية إلى إساءة اعتباره تحالفاً بينما هو بدلالة الاسم عدم اعتداء الأعداء. بل كان ستالين واثقاً من أن هتلر سيعلن الحرب على الاتحاد السوفياتي حالما يحتل بريطانيا المقدر في نهاية العام 1941. وكان هتلر من باب الخداع والتغطية (Camouflage) على العدوان المبيت على الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941 قد كثف غارات الطائرات الألمانية على بريطانيا في ربيع ذلك العام.
كان العدوان الهتلري المفاجئ على الاتحاد السوفياتي في 22 يونيو 1941 منتهكاً ميثاق عدم الاعتداء الموقع قبل 20 شهراً فقط بين الطرفين وبهذه القوى الهائلة ، أربعة ملايين جندي و 4300 دبابة و 4389 طائرة و 46 ألف قطعة مدفعية، والتي لم يكن الاتحاد السوفياتي مستعداً لصدها والصمود في وجهها، كان له الأثر الحاسم في مجريات الصراع الطبقي وتطور الثورة الاشتراكية وتقرير مصائرها بالتالي. ومن أبرز هذه الآثار ...
(1) كان الحزب الشيوعي قد عطل فعل الصراع الطبقي استعداداً للحرب من أجل تصليب الجبهة الداخلية في مقاومة العدوان ولذلك سمى السوفيات الحرب ضد النازية بالحرب الوطنية وهو ما يعني مشاركة جميع الطبقات في الحرب دفاعاً عن الوطن. ليس هناك من شك في أن تلك السياسة، سياسة التآخي الطبقي بدل الصراع الطبقي منحت البورجوازية الوضيعة السوفياتية روحاً جديدة وجعلتها تستعيد الثقة بالنفس التي كانت قد فقدتها في الثلاثينيات، وتشد عزائمها في صراعها الطبقي.
(2) كانت خسائر الاتحاد السوفياتي في الآشهر الستة الأولى للحرب كارثية وصلت إلى مقتل حوالي خمسة ملايين رجلاً كان معظمهم من كوادر الحزب الشيوعي المتقدمة وهو ما أخلى المكان بالطبع للبورجوازية الوضيعة لأن تحلّ مكانهم وتؤسس لنفسها مكاناً راسخاً ومتقدماً ليس في العسكرية السوفياتية فقط بل وفي المجتمع الأهلي أيضاً. وبهذا المعنى تحول العدوان النازي على الاتحاد السوفياتي إلى مساعدة حقيقية للبورجوازية الوضيعة السوفياتية في صراعها ضد البروليتاريا السوفياتية.
(3) قبل أن تصل قطعان النازيين إلى ضواحي موسكو ولينينغراد كانت قد أحرقت آلاف الأميال من الأراضي السوفياتية ودمرت آلاف المدن والحواضر السوفياتية. على مساحة أوكرانيا وبلاروسيا وأكثر من نصف روسيا الأروربية لم يعد هناك أثر للحضارة والعمران. كل تلك المدن والمصانع والسكك والجسور ومختلف معالم الحضارة كان من إنتاج البروليتاريا السوفياتية والذي من خلاله فقط تتوطد سلطة البروليتناريا. كل ذلك التهديم مثّل بنفس النسبة تراجع سلطة البروليتاريا.
(4) لدى انتهاء الحرب كان الاتحاد السوفياتي قد خسر 9 ملايين جندياً وبقي في صفوف جيوشة 6.5 مليون، وهو ما يعني أن الحرب اضطرته إلى تحويل 16 مليون رجلاً من صفوف البروليتاريا السوفياتية، روّاد الثورة الاشتراكية وقادتها، إلى العسكرية التي تمثل قيادة البورجوازية الوضيعة والتي بأشخاص قادة العسكر جرت الثورة المضادة للإشتراكية.
وهكذا فقد كانت الحرب الهتلرية على الدولة السوفياتية مدداً فائضاً للبورجوازية الوضيعة السوفياتية في صراعها ضد البروليتاريا وضد الاشتراكية بغض النظر عن النصر السوفياتي الساحق في الحرب والذي عُزي شرفه الرفيع إلى العسكر الذين قادوا الثورة المضادة بالرغم من أن هؤلاء العسكر ما كانوا ليكونوا بتلك القوة وذلك الجبروت لولا جهود البروليتاريا الجبارة. ليس ثمة من شك في أن انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب يعود أساساً إلى النظام الاشتراكي الذي قدم جهوداً هائلة في أرض المعارك للقضاء على العسكرية النازية كانت الدول الرأسمالية الكبرى مجتمعة لا تقوى على تقديمها. لذلك نؤكد أن النصر الكبير على الفاشية كان من فعل البروليتاريا وليس العسكر.
فيما بعد الحرب أصبح للبورجوازية الوضيعة تواجد ملموس في مفاصل المجتمع السوفياتي وفي الحزب نفسه فكان أن قاوم ستالين مثل ذلك التواجد الخطر على دولة البروليتاريا، فعمد بعد الحرب مباشرة إلى تهميش القوى العسكرية التي تفاخر بانتصارها على العسكرية الألمانية، وأعاق تواصل وحداتها بالرغم من كل الأخطار المحيطة والتهديد الذري من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الإطلنطي. كما دعا ستالين إلى مؤتمر خاص عقد في العام 1950 ضم خبراء من مختلف الاختصاصات بالإضافة إلى قادة الحزب والدولة للبحث في توجيه ضربات ساحقة للبورجوازية الوضيعة. انقسم المؤتمرون هناك إلى قسمين متعارضين، قسم برئاسة مولوتوف يطالب بداية بإنزال ضربة ماحقة بالفلاحين من خلال قرار تتخذه قيادة الحزب يحول المزارع التعاونية إلى مزارع حكومية فتختفي في الحال طبقة الفلاحين الذين يشكلون الشريحة الأوسع من البورجوازية الوضيعة، وقسم معارض برئاسة ستالين يعارض بقوة تلك السياسة باعتبارها خطراً يهدد مصائر الثورة الاشتراكية ويرى أن تتم معالجة البورجوازية الوضيعة بقدر من الأناة، وأن بالإمكان محاصرة الفلاحين اقتصادياً كي يهجروا الفلاحة طوعاً. طبعاً لم يدرك الأخطار المحيقة بالثورة الاشتراكية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وبعد الانتصار على الفاشية وإعادة الإعمار أحدٌ مثل ستالين وهو القائد العبقري الذي كرس كل حياته ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة لقضية البروليتاريا وهي الاشتراكية. أدرك ستالين أنه وبحكم تجاوزه سن السبعين لم يعد قادراً على الدفع بتيار لينيني قوي يحرس الثورة ويقودها إلى منتهاها. ولذلك وجدناه في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في نوفمبر 1952 يهاجم أعضاء القيادة في الحزب ويطالب باستبدالهم جميعاً بما في ذلك ستالين نفسه وأن يصار خلال عشر سنوات إلى إيجاد قيادة شابة متحمسة لقضية الشيوعية.
مطالبة ستالين بالاستغناء عن خدمات أعضاء البريزيديزم كان لها جرس آخر لدى أولئك الأعضاء. كان أولئك الأعضاء وبفعل قصورهم في الوعي الماركسي وامتهانهم الطويل للعمل السياسي قد تحولوا إلى مهنيين وغدوا أقرب إلى شرائح البورجوازية الوضيعة، تخامرهم الرغبة في الاحتفاظ بمراكزهم العليا المتميزة. كانت الشكوك برحيل ستالين المفاجئ قد خامرت رفيق لينين وستالين فياتشسلاف مولوتوف لكنه مع ذلك لم يطالب بتحقيق شامل بأسباب الوفاة بالرغم من أقوال لافرنتي بيريا وإشاراته المشبوهة. بعد رحيل ستالين تمكنت البورجوازية الوضيعة من اغتصاب سلطة البروليتاريا وكان إلغاء الخطة الخمسية المرتكزة على إنتاج البضائع المدنية الاستهلاكية لصالح البروليتاريا واستبدالها بالتركيز على إنتاج الأسلحة، وهو الإنتاج المعارض لفحوى الاشتراكية، مثل ذلك الإلغاء الذي تقرر في سبتمبر 1953 كان أقوى ضربة للبروليتاريا وللإشتراكية. لقد كان اغتيال ستالين بالسم هو نقطة البداية لانهيار الاشتراكية وعبور العالم إلى الفوضى العارمة التي نراها اليوم والتي لا تنتهي قبل وقوع العالم في كارثة عامة قد تكون نووية.
كانت البورجوازية الوضيعة السباقة لتبني الماركسية ليس لأنها لا تمتلك إيديولوجية متكاملة خاصة بها وحسب، رغم اشتغالها بالفكر وبالثقافة، بل لأن الماركسية توفر لها أيضاً أقوى الآدوات في تحقيق أغراضها الرجعية. فهي تستخدمها في مقاومة الرأسمالية التي تدفع بقوة إلى تحويلها إلى بروليتاريا ، كما أشرنا سابقاُ، ثم لا ترعوي بعدئذٍ في استخدامها ضد البروليتاريا ذاتها من خلال تحريفها.
بعد بدء هجوم البورجوازية الوضيعة السوفياتية على البروليتاريا والرجوع عن الاشتراكية في العام 1953 هبت البورجوازية الوضيعة المخترقة لقيادات الأحزاب الشيوعية بشكل خاص في أوروبا الرأسمالية إلى الهجوم الكاسح على الماركسية وتحطيم أعمدتها الرئيسة فظهر ما يدعى بالشيوعية الأوروبية التي تنكر وتستنكر دكتاتورية البروليتاريا التي هي السلطة الوحيدة التي تقود عبور الاشتراكية التي لا تعني أكثر من محو الطبقات، وليس هناك من سلطة أخرى غير دكتاتورية البروليتاريا مؤهلة لمحو الطبقات. إن كل من ينكر ويستنكر دولة دكتاتورية البروليتاريا ليس له أدنى علاقة بالاشتراكية أو بالماركسية. كما ظهر بجانب ذلك مدرسة أخرى أكثر خبثاً تطعن بالنظرية العلمية للمادية الديالكتيكية متمثلة بماركسيي مدرسة فرانكفورت الذين يزعمون أن قوانين المادية الديالكتيكية تحكم العالم المادي فقط أما عندما يصل الأمر إلى الإنسان الواعي فالوعي يمكّن الإنسان من تعطيل هذا القانون أو الحد من تأثيره وبذلك يستطيع الإنسان أن يحقق اختياراتة بعيداً عن استحقاقات قانون المادية الديالكتيكية. مثل هذه الهرطقات نقلها إلى الفكر السياسي العربي الدكتور سمير أمين من مصر في سبعينيات القرن الماضي والدكتور فالح عبد الجبار من العراق حديثاً.
كان علينا الإصغاء إلى مثل هذه الهرطقات لو كان العقل البشري والتعقل مستوردين من خارج الطبيعة. بل حتى في الاسطورة الدينية عن خليقة آدم وحواء فالعقل الذي غرسه فيهما (الله) كما في الاسطورة لم يمتثل لتحذيرات الله وتناولا التفاحة المحظورة من "شجرة المعرفة" لحاجة جسديهما إليها ولم يكن ذلك خيارهما، كان ذلك الضرورة وليس الخيار. الحقيقة العلمية التي لا تحتمل التشكيك هي أن العقل والتعقل هما الحلقة الأخيرة التي انتهت إليها سلسلة أزلية من فعل الطبيعة الديالكتيكي. فكيف لهؤلاء الهراطقة أن يدعوا بأن الحلقة الأخيرة لها أن تنفصل عن السلسلة الأم لتقوم بوظائف لم ترث حوافزها من الحلقات الأم. ولذلك قال ماركس .. الإنسان يصنع التاريخ لكن ليس كما يشتهي. ما يكذب دعوى هؤلاء الهراطقة في الخيارت المفتوحة للعقل البشري هو أن هذا العقل مرتبط كل الإرتباط بشغل أدوات الإنتاج يتطور بتطورها ويسكن بسكونها. ما يشار إليه على أنه خيارات العقل البشري لا تنفصل تلك الخيارات قيد أنملة عن شغل أدوات الإنتاج.
خلاصة القول هي التحذير التالي ..
حـذارِ حـذارِ من "ماركسية" البورجوازية الوضيعة التي لعبت دوراً حاسماً في تعثر مسيرة البروليتاريا في الثورة الاشتراكية !!!
في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي (البلشفيك) 1921 تقرر بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ومنذ ذلك التاريخ والصراع الطبقي يتعالى حتى داخل الحزب بين البروليتاريا يقودها لينين ثم ستالين، وبين البورجوازية الوضيعة بقيادات إما يسارية من مثل تروتسكي أو يمينية من مثل بوخارين ثم خروشتشوف. عيون ستالين اليقظ التي لم تغمض جفونها لأكثر من ثلاثين عاماً 1922 ـ 1953 لم تعد كافية لحراسة مسيرة الإنسانية الثورية نحو بناء عالم شيوعي جديد مختلف يتحرر فيه الإنسان من قيد الإنتاج الصدئ؛ فكان ستالين أخيراً أن أعلن في نوفمبر 1952 أن أعضاء البريزيديوم، المكتب السياسي للحزب الشيوعي وهم قادة الحزب، جميعهم ليسوا شيوعيين حقيقيين ليقودوا المجتمع إلى الشيوعية، وطلب من المؤتمر العام انتخاب 12 عضواً آخرين كي يكون المكتب السياسي من 24 عضواً كاحتراز لئلا تنحرف قيادة الحزب عن النهج اللينيني كما توقع ستالين. ما أكد هواجس ستالين هو أن رفاقه في البريزيديوم الأحد عشر لم يمهلوه طويلاً قبل أن يغتالوه بالسم عشية الأول من مارس 1953، وأن يجتمعوا قبل دفنه ليلغوا قرار المؤتمر العام للحزب بإضافة 12 عضواً آخرين للمكتب السياسي وهو القرار الصادر عن المؤتمر العام للحزب الذي لا يجوز إلغاؤه. بعض الذين يتشفون اليوم باغتيال ستالين يزعمون أن وصول المجرمين القتلة إلى رئاسة الحزب يعود للقيادة البيروقراطية لستالين الذي كان يأتي بأنصاره للقيادة تعزيزا لسلطته المطلقة في الحزب. مثل هؤلاء البورجوازيين لا يعرفون النظام الداخلي الديموقراطي للحزب الشيوعي. ففي مؤتمر الحزب العام التاسع عشر في نوفمبر 1952 وجه ستالين نقداً لاذعاً لجميع الأعضاء في المكتب السياسي وأكد للمندوبين في المؤتمر وبدون مواربة أن أولئك المسنين لم يعودوا قادرين على العمل الشيوعي، لكن لخيبة أمل ستالين أعاد المندوبون انتخاب جميع أعضاء القيادة مرة أخرى وهو ما يدل أن من يعيّن عضو القيادة هم المندوبون وليس ستالين. ليس ثمة أدنى شك في أن قيام القيادة بعد رحيل ستالين بإلغاء كافة مقررات المؤتمر العام للحزب المنعقد قبل أشهر قليلة والتي لا يجوز إلغاؤها بحال من الأحوال وخاصة الخطة الخمسية التي تعكس الخطوط الرئيسة لسياسة الدولة والحزب، كل ذلك يؤكد أن الصراع بين قيادة البروليتاريا وقيادة البورجوازية الوضيعة المتمثلة بتيار قوي في قيادة الحزب بالإضافة إلى مئات المارشالات والجنرالات وخلفهم العسكر والفلاحون قد وصل حد التصفيات الدموية كما تبدّى ذلك بجلاء في الانقلاب العسكري في يونيو 1957 لإعادة خروشتشوف إلى السلطة بعد أن نزعت منه بقرار من قبادة الحزب، والانقلاب العسكري الثاني في أكتوبر 1964 لنزع السلطة من خروشتشوف بعد أن عصرته البورجوازية الوضيعة حتى النهاية ثم ألقت به في الزبالة.
لا يمكن قراءة التاريخ قراءة علمية وموضوعية بلغة أخرى غير لغة الصراع الطبقي. مثقفو البورجوازية الوضيعة لا يبررون وضاعتهم بغير الحديث السمج الذي لا ينتهي عما يسمونه "جرائم" ستالين و "سنوات الرعب" و "التصفيات الكبرى" (Great Purge) 1937 و 38. يمكر هؤلاء البورجوازيون ويصدقهم أعداد كبيرة من الشيوعيين السذج. يتجاهلون الصراع الطبقي ولكأن البورجوازية الوضيعة تلين قناتها وتستسلم للأقدار وتتحول طائعة إلى بروليتاريا !! هذا لن يحدث حتى في الأحلام. كان طلائعيو البورجوازية الوضيعة ومنهم من يتواجد في قيادة الحزب الشيوعي يستعدون للتفاوض مع هتلر على شروط استسلام روسيا والاتحاد السوفياتي. لقد ثبت ذلك في المحاكمات التي جرت لعشرات من هؤلاء الخونة، محاكمات علنية بحضور مختلف وكالات الأنباء وسفراء الدول الأجنبية مع التأكيد على أن تعذيب المتهمين محظور بموجب القانون. كان بوخارين والمارشال توخاتشوفسكي يتصلان بهتلر وكان زينوفييف وكامينيف يتصلان بتروتسكي وهو يحرّض هتلر على مهاجمة الاتحاد السوفياتي كما فضحته تصريحاته إلى مجلة بوست دسباتش في سانت لويس St. Louis Post-Dispatch للصحفي جوليوس كليمان Julius Clymanفي عددي يناير ومارس 1940 ، ويقدم التقارير الاستخباراتية باسماء الشيوعيين في أميركا الشمالية إلى مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) كما كشف أحد أصدقائه المقربين أثناء التحقيق في مقتله.
في تلك الظروف الفاصلة وإزاء الأخطار الحقيقية التي تتهدد المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية المتجسد في الاتحاد السوفياتي، أخطار الفاشية والنازية في أواسط أوروبا المستفحلة برعاية المخابرات الانجليزية، وهي أحط وأسفل مخابرات عبر التاريخ، ترتب على ستالين بشكل خاص وهو الوارث المؤتمن الوحيد على تراث لينين والثورة الاشتراكية العالمية، ترتب عليه القيام بواجب حماية اللينينية ودولة البروليتاريا الأولى في التاريخ. ذلك بالنسبة لستالين قائد البروليتاريا في العالم، وكان قد رأى ملايين الشيوعيين يفتدون الثورة الاشتراكية بأرواحهم، تهون معه كل الأثمان التي يمكن أن تتحملها بروليتاريا العالم.
في مواجهة المؤامرة الكبرى على الدولة السوفياتية، التي خططت لها الامبريالية بالتعاون مع الفاشية والنازية كما دلت على ذلك نتائج مؤتمر ميونخ 1938 ، أطلق ستالين حملة تطهير كبرى (Great Purge) قبل انتهاء ثلاثينيات القرن الماضي تستهدف استئصال شأفة البورجوازية الوضيعة في الحزب وفي الدولة كيلا يجد هتلر من يتعاون معه أثناء عدوانه المرتقب. لقد أكد ستالين فيما بعد الانتصار على النازية أن حملة تطهير الحزب والدولة كان لها الأثر البالغ في الإنتصار. مع ذلك كان وزير أمن الدولة آنذاك ايزوف(Nikolai Ezhov) قد عمد متآمراً مع قوى البورجوازية الوضيعة إلى تلطيخ حملة التطهير، واستطاع أن يسوق العديد من الشيوعيين الشرفاء إلى المقصلة وكان إعدامه لا يسد فداحة جرائمه.
عبور الاشتراكية في روسيا القيصرية كان غيره لو كان في ألمانيا أو إنجلترا. فمضاعفة قوى البروليتاريا في المجتمع بعد انطلاق الثورة الاشتراكية في روسيا المتخلفة كان يتطلب أيضاً مضاعفة قوى البورجوازية الوضيعة من غير الفلاحين. فالاشتراكية السوفياتية كانت تنتج أعداءها تماماً مثلما كانت الرأسمالية تنتج أعداءها باستثناء أن الفرق في الحالة السوفياتية هو أن دولة دكتاتورية البروليتاريا تعي أن وظيفتها الرئيسة هي محو طبقة البورجوازية الوضيعة حتى التلاشي، بينما الطبقة الرأسمالية لا تتطور ولا تتقدم إلا مع تطور وتقدم طبقة البروليتاريا. كانت دولة دكتاتورية البروليتاريا بقيادة مثل قيادة ستالين ستتحمل التوالد الطبيعي للبورجوازية الوضيعة وتتجاوز كل الصعاب التي تقيمها البورجوازية على طريق عبور الاشتراكية، كما كانت قد تحملت وتجاوزت مختلف الصعاب أو العوائق الهائلة في العشرينات والثلاثينيات، إلا أن عوامل خارجية غير سوفياتية تدخلت لتقلب موازين المعادلة. تلك العوامل كانت بمجملها الحرب، العدوان الهتلري على الاتحاد السوفياتي بغير أوانه. لم يترك ستالين باباً إلا وطرقه مستهدفاً تحاشي الحرب؛ فكان أن رفضت بريطانيا وفرنسا كل تحالف مع الاتحاد السوفياتي في مواجهة النازية والفاشية في أواسط أوروبا وكانت هاتان الامبراطوريتان الاستعماريتان قد شجعتا الكولونيالية النازية باعترافهما باحتلال النمسا وموافقتهما دون استشارة السوفييت، كما كان يتوجب، على سلخ منطقة السوديت من تشيكوسلوفاكيا وإهدائها إلى هتلر كما تقرر في مؤتمر ميونخ 1938، وكانت الامبراطوريتان، وخاصة بريطانيا واستخباراتها الاجرامية، ترعيان النازية مؤملتان توظيف النازية في كسر مد الثورة الاشتراكية التي كانت قد حققت نجاحات كبرى داخل الاتحاد السوفياتي. كما رفضت الولايات المتحدة التحالف مع السوفييت ضد النازية إذ كانت قد قررت بقاءها بعيدة عن حروب أوروبا قبل عدوان بيرل هاربر (Pearl Harbour) في ديسمبر1941. وعليه لم يبق لدى ستالين أي حيلة لتحاشي الحرب سوى الاتفاق مع هتلر على عدم الاعتداء (Non-aggression Pact) الموقع في أغسطس 1939 وهو الميثاق الذي عمد مجندو الإمبريالية الأنجلو- فرنسية إلى إساءة اعتباره تحالفاً بينما هو بدلالة الاسم عدم اعتداء الأعداء. بل كان ستالين واثقاً من أن هتلر سيعلن الحرب على الاتحاد السوفياتي حالما يحتل بريطانيا المقدر في نهاية العام 1941. وكان هتلر من باب الخداع والتغطية (Camouflage) على العدوان المبيت على الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941 قد كثف غارات الطائرات الألمانية على بريطانيا في ربيع ذلك العام.
كان العدوان الهتلري المفاجئ على الاتحاد السوفياتي في 22 يونيو 1941 منتهكاً ميثاق عدم الاعتداء الموقع قبل 20 شهراً فقط بين الطرفين وبهذه القوى الهائلة ، أربعة ملايين جندي و 4300 دبابة و 4389 طائرة و 46 ألف قطعة مدفعية، والتي لم يكن الاتحاد السوفياتي مستعداً لصدها والصمود في وجهها، كان له الأثر الحاسم في مجريات الصراع الطبقي وتطور الثورة الاشتراكية وتقرير مصائرها بالتالي. ومن أبرز هذه الآثار ...
(1) كان الحزب الشيوعي قد عطل فعل الصراع الطبقي استعداداً للحرب من أجل تصليب الجبهة الداخلية في مقاومة العدوان ولذلك سمى السوفيات الحرب ضد النازية بالحرب الوطنية وهو ما يعني مشاركة جميع الطبقات في الحرب دفاعاً عن الوطن. ليس هناك من شك في أن تلك السياسة، سياسة التآخي الطبقي بدل الصراع الطبقي منحت البورجوازية الوضيعة السوفياتية روحاً جديدة وجعلتها تستعيد الثقة بالنفس التي كانت قد فقدتها في الثلاثينيات، وتشد عزائمها في صراعها الطبقي.
(2) كانت خسائر الاتحاد السوفياتي في الآشهر الستة الأولى للحرب كارثية وصلت إلى مقتل حوالي خمسة ملايين رجلاً كان معظمهم من كوادر الحزب الشيوعي المتقدمة وهو ما أخلى المكان بالطبع للبورجوازية الوضيعة لأن تحلّ مكانهم وتؤسس لنفسها مكاناً راسخاً ومتقدماً ليس في العسكرية السوفياتية فقط بل وفي المجتمع الأهلي أيضاً. وبهذا المعنى تحول العدوان النازي على الاتحاد السوفياتي إلى مساعدة حقيقية للبورجوازية الوضيعة السوفياتية في صراعها ضد البروليتاريا السوفياتية.
(3) قبل أن تصل قطعان النازيين إلى ضواحي موسكو ولينينغراد كانت قد أحرقت آلاف الأميال من الأراضي السوفياتية ودمرت آلاف المدن والحواضر السوفياتية. على مساحة أوكرانيا وبلاروسيا وأكثر من نصف روسيا الأروربية لم يعد هناك أثر للحضارة والعمران. كل تلك المدن والمصانع والسكك والجسور ومختلف معالم الحضارة كان من إنتاج البروليتاريا السوفياتية والذي من خلاله فقط تتوطد سلطة البروليتناريا. كل ذلك التهديم مثّل بنفس النسبة تراجع سلطة البروليتاريا.
(4) لدى انتهاء الحرب كان الاتحاد السوفياتي قد خسر 9 ملايين جندياً وبقي في صفوف جيوشة 6.5 مليون، وهو ما يعني أن الحرب اضطرته إلى تحويل 16 مليون رجلاً من صفوف البروليتاريا السوفياتية، روّاد الثورة الاشتراكية وقادتها، إلى العسكرية التي تمثل قيادة البورجوازية الوضيعة والتي بأشخاص قادة العسكر جرت الثورة المضادة للإشتراكية.
وهكذا فقد كانت الحرب الهتلرية على الدولة السوفياتية مدداً فائضاً للبورجوازية الوضيعة السوفياتية في صراعها ضد البروليتاريا وضد الاشتراكية بغض النظر عن النصر السوفياتي الساحق في الحرب والذي عُزي شرفه الرفيع إلى العسكر الذين قادوا الثورة المضادة بالرغم من أن هؤلاء العسكر ما كانوا ليكونوا بتلك القوة وذلك الجبروت لولا جهود البروليتاريا الجبارة. ليس ثمة من شك في أن انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب يعود أساساً إلى النظام الاشتراكي الذي قدم جهوداً هائلة في أرض المعارك للقضاء على العسكرية النازية كانت الدول الرأسمالية الكبرى مجتمعة لا تقوى على تقديمها. لذلك نؤكد أن النصر الكبير على الفاشية كان من فعل البروليتاريا وليس العسكر.
فيما بعد الحرب أصبح للبورجوازية الوضيعة تواجد ملموس في مفاصل المجتمع السوفياتي وفي الحزب نفسه فكان أن قاوم ستالين مثل ذلك التواجد الخطر على دولة البروليتاريا، فعمد بعد الحرب مباشرة إلى تهميش القوى العسكرية التي تفاخر بانتصارها على العسكرية الألمانية، وأعاق تواصل وحداتها بالرغم من كل الأخطار المحيطة والتهديد الذري من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الإطلنطي. كما دعا ستالين إلى مؤتمر خاص عقد في العام 1950 ضم خبراء من مختلف الاختصاصات بالإضافة إلى قادة الحزب والدولة للبحث في توجيه ضربات ساحقة للبورجوازية الوضيعة. انقسم المؤتمرون هناك إلى قسمين متعارضين، قسم برئاسة مولوتوف يطالب بداية بإنزال ضربة ماحقة بالفلاحين من خلال قرار تتخذه قيادة الحزب يحول المزارع التعاونية إلى مزارع حكومية فتختفي في الحال طبقة الفلاحين الذين يشكلون الشريحة الأوسع من البورجوازية الوضيعة، وقسم معارض برئاسة ستالين يعارض بقوة تلك السياسة باعتبارها خطراً يهدد مصائر الثورة الاشتراكية ويرى أن تتم معالجة البورجوازية الوضيعة بقدر من الأناة، وأن بالإمكان محاصرة الفلاحين اقتصادياً كي يهجروا الفلاحة طوعاً. طبعاً لم يدرك الأخطار المحيقة بالثورة الاشتراكية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وبعد الانتصار على الفاشية وإعادة الإعمار أحدٌ مثل ستالين وهو القائد العبقري الذي كرس كل حياته ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة لقضية البروليتاريا وهي الاشتراكية. أدرك ستالين أنه وبحكم تجاوزه سن السبعين لم يعد قادراً على الدفع بتيار لينيني قوي يحرس الثورة ويقودها إلى منتهاها. ولذلك وجدناه في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في نوفمبر 1952 يهاجم أعضاء القيادة في الحزب ويطالب باستبدالهم جميعاً بما في ذلك ستالين نفسه وأن يصار خلال عشر سنوات إلى إيجاد قيادة شابة متحمسة لقضية الشيوعية.
مطالبة ستالين بالاستغناء عن خدمات أعضاء البريزيديزم كان لها جرس آخر لدى أولئك الأعضاء. كان أولئك الأعضاء وبفعل قصورهم في الوعي الماركسي وامتهانهم الطويل للعمل السياسي قد تحولوا إلى مهنيين وغدوا أقرب إلى شرائح البورجوازية الوضيعة، تخامرهم الرغبة في الاحتفاظ بمراكزهم العليا المتميزة. كانت الشكوك برحيل ستالين المفاجئ قد خامرت رفيق لينين وستالين فياتشسلاف مولوتوف لكنه مع ذلك لم يطالب بتحقيق شامل بأسباب الوفاة بالرغم من أقوال لافرنتي بيريا وإشاراته المشبوهة. بعد رحيل ستالين تمكنت البورجوازية الوضيعة من اغتصاب سلطة البروليتاريا وكان إلغاء الخطة الخمسية المرتكزة على إنتاج البضائع المدنية الاستهلاكية لصالح البروليتاريا واستبدالها بالتركيز على إنتاج الأسلحة، وهو الإنتاج المعارض لفحوى الاشتراكية، مثل ذلك الإلغاء الذي تقرر في سبتمبر 1953 كان أقوى ضربة للبروليتاريا وللإشتراكية. لقد كان اغتيال ستالين بالسم هو نقطة البداية لانهيار الاشتراكية وعبور العالم إلى الفوضى العارمة التي نراها اليوم والتي لا تنتهي قبل وقوع العالم في كارثة عامة قد تكون نووية.
كانت البورجوازية الوضيعة السباقة لتبني الماركسية ليس لأنها لا تمتلك إيديولوجية متكاملة خاصة بها وحسب، رغم اشتغالها بالفكر وبالثقافة، بل لأن الماركسية توفر لها أيضاً أقوى الآدوات في تحقيق أغراضها الرجعية. فهي تستخدمها في مقاومة الرأسمالية التي تدفع بقوة إلى تحويلها إلى بروليتاريا ، كما أشرنا سابقاُ، ثم لا ترعوي بعدئذٍ في استخدامها ضد البروليتاريا ذاتها من خلال تحريفها.
بعد بدء هجوم البورجوازية الوضيعة السوفياتية على البروليتاريا والرجوع عن الاشتراكية في العام 1953 هبت البورجوازية الوضيعة المخترقة لقيادات الأحزاب الشيوعية بشكل خاص في أوروبا الرأسمالية إلى الهجوم الكاسح على الماركسية وتحطيم أعمدتها الرئيسة فظهر ما يدعى بالشيوعية الأوروبية التي تنكر وتستنكر دكتاتورية البروليتاريا التي هي السلطة الوحيدة التي تقود عبور الاشتراكية التي لا تعني أكثر من محو الطبقات، وليس هناك من سلطة أخرى غير دكتاتورية البروليتاريا مؤهلة لمحو الطبقات. إن كل من ينكر ويستنكر دولة دكتاتورية البروليتاريا ليس له أدنى علاقة بالاشتراكية أو بالماركسية. كما ظهر بجانب ذلك مدرسة أخرى أكثر خبثاً تطعن بالنظرية العلمية للمادية الديالكتيكية متمثلة بماركسيي مدرسة فرانكفورت الذين يزعمون أن قوانين المادية الديالكتيكية تحكم العالم المادي فقط أما عندما يصل الأمر إلى الإنسان الواعي فالوعي يمكّن الإنسان من تعطيل هذا القانون أو الحد من تأثيره وبذلك يستطيع الإنسان أن يحقق اختياراتة بعيداً عن استحقاقات قانون المادية الديالكتيكية. مثل هذه الهرطقات نقلها إلى الفكر السياسي العربي الدكتور سمير أمين من مصر في سبعينيات القرن الماضي والدكتور فالح عبد الجبار من العراق حديثاً.
كان علينا الإصغاء إلى مثل هذه الهرطقات لو كان العقل البشري والتعقل مستوردين من خارج الطبيعة. بل حتى في الاسطورة الدينية عن خليقة آدم وحواء فالعقل الذي غرسه فيهما (الله) كما في الاسطورة لم يمتثل لتحذيرات الله وتناولا التفاحة المحظورة من "شجرة المعرفة" لحاجة جسديهما إليها ولم يكن ذلك خيارهما، كان ذلك الضرورة وليس الخيار. الحقيقة العلمية التي لا تحتمل التشكيك هي أن العقل والتعقل هما الحلقة الأخيرة التي انتهت إليها سلسلة أزلية من فعل الطبيعة الديالكتيكي. فكيف لهؤلاء الهراطقة أن يدعوا بأن الحلقة الأخيرة لها أن تنفصل عن السلسلة الأم لتقوم بوظائف لم ترث حوافزها من الحلقات الأم. ولذلك قال ماركس .. الإنسان يصنع التاريخ لكن ليس كما يشتهي. ما يكذب دعوى هؤلاء الهراطقة في الخيارت المفتوحة للعقل البشري هو أن هذا العقل مرتبط كل الإرتباط بشغل أدوات الإنتاج يتطور بتطورها ويسكن بسكونها. ما يشار إليه على أنه خيارات العقل البشري لا تنفصل تلك الخيارات قيد أنملة عن شغل أدوات الإنتاج.
خلاصة القول هي التحذير التالي ..
حـذارِ حـذارِ من "ماركسية" البورجوازية الوضيعة التي لعبت دوراً حاسماً في تعثر مسيرة البروليتاريا في الثورة الاشتراكية !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق